إطلاق نار على فيل

زاهر بن حارث المحروقي

لقد اشتهرت أعمال الكاتب والصحفي والروائي البريطاني "جورج أورويل"، بالوضوح والذكاء وخفة الدم، وكذلك التحذير من غياب العدالة الاجتماعية، ومعارضة الحكم الشمولي، وإيمانه بالاشتراكية والديمقراطية، وتُعتبر روايتاه "1984" التي كتبها في عام 1949، و"مزرعة الحيوان" التي كتبها عام 1945، من أكثر الرويات مبيعاً، وقد صنفت صحيفة التايمز البريطانية عام 2008، جورج أورويل، في المرتبة الثانية في قائمة "أعظم 50 كاتباً بريطانياً منذ عام 1945، إذ استمر تأثير أعماله على الثقافة السياسية السائدة، ممّا أدى إلى انتشار مصطلح "الأورويلية"، الذي يصف ممارسات الحكم الاستبدادي والشمولي، والتي دخلت في الثقافة الشعبية، مثل ألفاظ عديدة أخرى من ابتكاره".

لقد عمل أورويل مساعداً لمفتش الشرطة في موليمان في بورما، وقد وصف مشاعره وهو في تلك الوظيفة بأن قال: "كانت هناك أمور محيِّرة ومزعجة، بما أنني في ذلك الوقت كنت مؤمنًا في قرارة نفسي أنّ الاستعمار شرٌّ، وأنني كلما أسرعت في ترك وظيفتي وخرجت من ذلك المكان كان أفضل لي، نظريًّا كنت مع البورميين وضد البريطانيين المضطهِدين، في السر طبعًا. أما بالنسبة للعمل الذي كنت أؤديه فقد كرهته كرهًا يفوق الوصف؛ في وظيفةٍ كتلك تستطيع أن ترى عن كثب الأعمال القذرة التي تقوم بها الإمبراطورية البريطانية، فالسجناء البؤساء محتشدون في أقفاص السجن ذات الرائحة الكريهة، والوجوهُ الكئيبة المروَّعة للمدانين المحكوم عليهم بوقت طويل، وأردافُ الرجال الخائفة من أعواد الخيزران، كلُّ هذه الأشياء أرهقتني بإحساسٍ بالذنب لا يطاق، لكنني لم أستطع أن أضع الأمور في نصابها، فقد كنت صغير السن ولم أحظ بتعليم جيد، وكان لزاماً عليّ أن أفكر في مشكلاتي في صمتٍ مطبق، صمتٌ فُرِضَ على كلِّ إنكليزيّ في الشرق؛ حتى إني لم أكن على علم بأن الإمبراطورية البريطانية تحتضر، ولم أعلم بأنها كانت أفضل بمراحل من الإمبراطوريات التي ستخلفها، كلُّ ما كنت أعرفه أنني عالق بين كرهي للإمبراطورية التي أخدمها وغيظي من هؤلاء الكائنات الصغيرة الشريرة التي جعلت من أدائي لمهامي الوظيفية أمراً مستحيلًا. اعتقدت في بعض اللحظات بأن الحكم البريطاني في الهند هو حكم استبدادي صارم ولا يمكن هزمه، وليس له نهاية، رغماً عن أنف الشعوب الواهنة، وفي لحظاتٍ أخرى اعتقدت بأنّ أعظم مصدر للابتهاج في الحياة هو حمل حربة وطعن كاهن بوذي بها، مثل هذه الأحاسيس هي مشاعر طبيعية لمن عايش استعماراً، واسألْ أيَّ موظف هندي-إنكليزي، إذا استطعت أن تدركه خارج الخدمة".

كانت تلك الكلمات مقدمة لحكاية "إطلاق النار على فيل"، وهي حكاية واقعية والتي كتبها عام 1936، وفيها من المشاعر الإنسانية الرائعة، حيث يحكي قصةً عن فعل يقوم به الشخص دون أن يقتنع بذلك الفعل، ودون أيِّ مبرر أخلاقي، وهي قصة تربت عليها أجيال من القُراء، ولكننا إذا قارناها بما يقع الآن من بعض الدول تجاه الشعوب أو الشعوب الأخرى؛ فإننا نجدها وكأنها تتحدث عن الواقع الحالي.

يقول أورويل: ذات صباح أبلغوه أنّ فيلاً مروَّضاً أُصيب بالجنون، فهاج وحطّم الدكاكين في السوق وقتل إنساناً؛ وإلى أن وصل أورويل مكان الحادث كان الفيل قد سكن اضطرابه وربض في سكون في الحقل يأكل العشب، لم يقصد أورويل إطلاق النار على الفيل؛ لكن الجمهور حثه على ذلك. "فخطوتُ في أسفل التل، أشعر بشعور الأحمق، والبندقيةُ على كتفي والجمعُ في تزايد واكتظاظ على أثري.. وفي اللحظة التي رأيت فيها الفيل؛ علمتُ بيقين كامل أنه لا يجوز لي أن أطلق النار عليه؛ فعن بُعد وهو يأكل في هدوء لا يبدو أخطر من بقرة، وقد كانت نوبةُ جنونه قد زالت تقريباً، واستقر رأيي على أن أتعقبه وقتاً مّا كي أتحقق من أنه لا يبدأ الهياج من جديد، ثم أعود إلى البيت، لكنني نظرت آنذاك إلى الجمع خلفي. كان هناك ألفان من السكان المحليين على الأقل، وكان آخرون ينضافون في كلِّ لحظة. وكان الجميع على يقين بأنني أوشك أن أطلق النار. وكانوا ينظرون إليّ كما ينظرون إلى ساحر. واستطعتُ أن أشعر بآلاف إراداتهم تحثني بقوة لا يمكن الصمود في وجهها. توقَّع الناس مني أن أطلق النار وكنت مُجبراً على أن أُلبِّي رغبتهم. إنّ السيد يجب أن يسلك سلوك السيد، فيجب عليه أن يكون مصمماً. وإذا ابتعدتُ من هناك في عجز فسيسخر الجمهور مني، كانت حياتي كلها صراعاً دائماً كي لا أكون سخرية.. لم يكن هناك سوى بديلٍ واحدٍ، حشوتُ مخزن البندقية بأمشاط الرصاص، استلقيت على الطريق حتى يكون الهدف أكثر وضوحاً، البندقيةُ كانت قطعة ألمانية جميلة تحتوي على منظار ذي علامة زائد للتصويب رفيعة مثل شعرة. لم أعلم حينها أنه عند إطلاق النار على فيل يجب قَطعُ خطٍّ متخيلٍ من فتحة الأذن إلى فتحة الأذن الأخرى، بناءً على ذلك، وبما أنّ الفيل وجّه جانبه ناحيتنا، وجب عليّ أن أصوّب مباشرة نحو فتحة أذنه؛ لكن ما حدث أني صوّبت على بعد بضعة بوصاتٍ من أذنه معتقداً أنّ دماغه سيكون أمام هذا المكان قليلاً.. عندما ضغطت الزناد لم أسمع دوياً ولم أشعر بارتداد السلاح، عادةً لا يحس المرء بهذه الأشياء عندما يصيب الهدف، لكنني سمعت الصخب الشيطاني الذي أطلقه الحشد من الفرح؛ في تلك اللحظة -قد يعتقد المرء أنه وقت قصير جداً، حتى بالنسبة إلى الرصاصة لتصل إلى الهدف-؛ تغيرٌ غامض ومريع حلّ بالفيل، لم يسقط ولم يثر أية جلبة، لكن كلَّ خط على جسده تغير، فجأةً بدا الفيل مصدوماً، ومنكمشاً وعجوزاً للغاية؛ وكأنّ الأثر المفزع للطلقة قد شلّه من دون أن يسقطه، في النهاية، بعد لحظة مرت كدهر، ربما كانت خمسَ ثوانٍ، سأجرؤ وأقول إنه ضَعُفَ وكانت ركبتاه رخوتين، وسال اللعاب من فمه؛ شيخوخةٌ شنيعةٌ حلّت به، قد يتصور من يراه أنّ عمره آلاف الأعوام، أطلقت النار مرة أخرى على المكان نفسه، لم يقع بعد الطلقة الثانية بل رفع نفسه على أطرافه ببطء فيه يأسٌ واستقام بوهن، ووقف على أرجل مرتخية وبرأسٍ يتدلى؛ أطلقت النار للمرة الثالثة، كانت هذه الطلقة هي القاضية، كان بالإمكان رؤية سكرة الموت تهز جسده بالكامل وتقضي على آخر أثرٍ للقوة في أرجله؛ لكن مع سقوطه بدا لوهلة وكأنه ينهض، بما أنّ رجليه الخلفيتين انهارتا تحته فصار كأنه يرتفع إلى الأعلى، مثل صخرة ضخمة تتداعى للسقوط، وخرطومُه امتد نحو السماء مثل شجرة؛ وأطلق الفيل نهيماً مدويّاً للمرة الأولى وكانت الأخيرة، ثم سقط أرضاً، كان بطنه باتجاهي، سقط محدثاً ضجيجاً هزّ الأرض حتى المكان الذي كنت مستلقيّاً فيه.

يحكي جورج أورويل، أنه بعد الحادثة كانت هناك محادثاتٌ لا نهاية لها حول عملية إطلاق النار، مالِكُهُ كان غاضباً، لكنه لم يكن سوى هنديٍّ ولم يقدر على القيام بأيِّ شيء، إضافة إلى أنَّ أورويل قانونيّاً قد قام بالعمل الصائب، لأنّ الفيل الهائج يجب قتله؛ ففي أوساط الأوروبيين انقسمت الآراء؛ كبار السن قالوا إنه كان مصيباً، وصغار السن قالوا إنه لَعَارٌ أن يُقتل فيل لقتله كوليّاً هندياً، لأن فيلاً يساوي أكثر من أي كوليٍ بورميٍ ملعون؛ أما أرويل فقد كان مسروراً جداً لأنّ الكوليّ قد قُتل، لأنّ ذلك جعله في وضع مناسبٍ قانونيّاً، وأعطاه ذريعة كافية لإطلاق النار على الفيل. ويقول أورويل "كثيراً ما تساءلتُ عمّا إذا كان الآخرون قد أدركوا أنني أقدمتُ على هذا العمل لتجنب أن أظهر بمظهر الأحمق فقط لا غير"، ويرى أنّ قصة قتل الفيل قد نورته بشكلٍ غير مباشر، فقد كانت حادثةً متناهية الصغر؛ إلّا أنها أعطته لمحة أكثر وضوحًا من نظرته عن جوهر الاستعمار، والدوافع الحقيقية وراء كلِّ ما تقوم به الحكومات الاستبدادية. وبما أنّ بعض القصص والروايات تحمل في طياتها رسائل وعِبَر، فإنّ الأمر متروك للقارئ أن يستنبط من قصة إطلاق النار على فيل ما يشاء؛ فهي قصة تحمل في طياتها دلالات أبعد و أوسع من مجرد أن يطلق شخصٌ مستعمِرٌ النار على فيل مسعور.

Zahir679@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك