مشاهد سياحية من بلادي

سُلطان الخروصي

السياحة مسار متين لاقتصاد الأمم وتلاحم ثقافات بني الإنسان بين أمة وأخرى؛ ففي إيوانها تتعانق أرواح الجمال بإبداع ما شرعته يد الخالق في أرضه، وبين جنباتها تُبصِرُ الأفئدة رونقها الأّخاذ بملحمة الإنسانية كخليفة الله فيها، وفي خضم الزحام المكفهر بهذا الجمال يلمع بريق عُمان بمظاهرها الباهرة التي تسرُّ الناظرين؛ والتي تأسر مؤسسات القطاع الحكومي والخاص للاهتمام بها في سبيل استمطار كميات مهولة من الأموال؛ ولتجود بمظاهرها الفاتنة فتكون وجهة تُشدُّ لها الرحال؛ فتلهث الحناجر بسحرها وفِنائها الخالد، حيث المجد والتاريخ والجيولوجيا والإنسان العصري المضطلع بأصالة تراثه والمتطلع لحداثة الزمان.

... إنَّ المناهج في الحقل التربوي العماني -وبالتحديد في كتب الدراسات الاجتماعية- نُعلِّم الطلاب صنوفَ السياحة سواء الداخلية أو الخارجية، وكم شهدت على مُعلِّمٍ يثابر ويكابر على إقناع طلابه بأهمية السياحة الداخلية بعمان وأنها مرآة تعكس البعد الثقافي والتاريخي والحضاري والاقتصادي للبلاد؛ فهي تربطهم بواقع وطنهم وتقاليد مجتمعهم، وتغرس فيهم الضوابط الاجتماعية والممارسات المسؤولة في خدمة من حولهم، ناهيك عن سرب الأموال التي تتبعثر في سد حاجة الفقير والمحتاج ممن يتكسَّبون في "بسطة"متواضعة أو بقالة (دكان) منزوٍ أو حرفيّ ماهر يعزِّز من شهرته وموهبته أمام القادمين ليقتنوا حرفة وطنية تقليدية كذكرى يخلدها لهم الزمن، لكنني -وخلال الأسبوع المنصرم- وجدتُ أننا نعيش في كنف المثالية البعيدة عن الواقعية، ولمست حقيقة التذمر الذي يبديه المواطنون في فقر السياحة الداخلية والهجرة إلى دول الجوار؛ وعلى رأسها: دولة الإمارات العربية المتحدة، وكأن مؤسساتنا المعنية بترويج السياحة في عُمان تنفخ في جربة مخروقة، وحتى تكون الصورة واضحة سأسرد مشهدين سقطا في شبكة مسار رحلتي الأسبوعية ليجردَّها قلمي لك أيها القارئ:

المشهد (1)

في الصباح الباكر يمَّمتُ وعائلتي نحو شاطئ السوادي حيث "المدينة الزرقاء" والتي صُرفت لماكياج وجهها الناصع ملايين ضوئية ضمن المناقصات التي ينفرد بها مجلس المناقصات!! وقد كانت آخر زيارتي لها قبيل ثلاثة أعوام، توقعت أن تلك الملايين التي بُذخت في تطويرها وجعلها مدينة سياحية بامتياز قد غيرت وجهها الشاحب إلى جنة بربوة ذات أفنان وجمال، وبعد مسيرة عشرات الكيلومترات حيث بدأ شاطئ السوادي يتلألأ كدرر اللؤلؤ المكنون، بدأنا نرقب ثُلّة من الناس وكأنهم حُشروا إلى يوم المعاد، تقدمنا رويدا حتى وصلنا إلى مُبتغانا؛ فكان المشهد يُوحي بفوضى عارمة، وكأنك في سباق محموم لالتقاط قطع من الذهب التي تُمطرها السماء!! فامتداد الشاطئ كان يغصُّ بالسيارات التي تعجُّ وتضجُّ بصنوف الأغاني والموسيقى الصاخبة، والقوارب التي إن أردت ركوب أحدها فعليك أن تتحملها كما هي؛ حيث بقايا السمك وبعض (الليوخ) وعدّة الصيد، ناهيك عن أسراب الذباب وأخواتها، كما أنك لا تستطيع أن تُنزل عائلتك للشاطئ؛ حيث لا يوجد مكان للعائلات ولا توجد حواجز تمنع دخول السيارات وقد عشت لحظات عصيبة في التقاط طفلة كادت تتعرض للدَّهس، تركتُ الشاطئ بمن فيه وقررت الجلوس لهُنيهة من الزمن في المتنزه المتواضع المقابل للشاطئ، لكن الوضع كما هو حيث سيارات الدفع الرباعي وسط المتنزه، والتي تحاول اتقاء قتل الأطفال الذين يكابرون على أنفسهم باللعب بما تبقى من حُطام "المرجحانة" وتوابعها، وجدت عشرات العوائل تشدُّ الرحال عن فوضى وضوضاء هذه المدينة، وبين حين وآخر أرقب عائلة تنصب خيامها بعيدة عن الشاطئ والألعاب حيث نزهة الأطفال!! ليس إلا خوفا على أرواح بريئة قد تُزهق بين غمضة عين وانتباهتها، حينها قررت الرجوع من حيث أتيت، فحملت معي خُفي حُنين، وتساءلت هل النفور من السياحة الداخلية بسبب المواطن أم المؤسسات المعنية بالسياحة لسوء تخطيطها لمثل هذه المدن التي نترقب أن تكون على مستوى عالمي؟!

المشهد (2)

بعد مأساة رحلتي إلى السوادي، قرَّرت أن أشد الرحال إلى صُور؛ حيث عبق التاريخ وأمجاد البحر، كم تزهو النفس راحة واطمئنان في صور العفية، وبعد وصولنا للولاية بدأنا عملية البحث والتقصي عن مأوى يلملم شظايا الجسم المتهالك؛ فكلها كانت ممتلئة حتى استقر بنا المقام في فندق وسط السوق، ومع بداية الصباح بدأنا رحلتنا الحقيقية إلى وادي الشاب ووادي طيوي، وأثناء خط مسيرتنا لمحت أبصارنا أحد الفنادق في هذه النيابة الساحرة، ومن الفضول دخلت إلى هذا الفندق البسيط والمطل على البحر وكان في قرارة نفسي أن أستجمَّ فيه بضعت أيام، وبعد استقبال المضيف كانت المفاجأة بأن الليلة بـ100 ريال عماني!! توقعت أن الخدمات التي يقدمها الفندق لا مثيل لها مقارنة بهذا السعر؛ فقد شهدت فنادق في ماليزيا تؤجر بـ50 ريالا مقابل ملاعب الجولف، ووجبات الإفطار، وبعض الرحلات السياحية الداخلية، وحظيرة للخيول يمكن ركوبها وأخذ الصور عليها، وبعض الحفلات الليلية (العائلية)، وأحواض سباحة العامة والخاصة، فبادرته بالسؤال: ما الخدمات التي توفرونها للنزيل؟ فكان الجواب هو: حوض سباحة عام، وخدمة (WIF) مجانا!! فقلت له مستنكرا: فقط؟! فقال: نعم، فخرجت وأنا أتساءل كيف يُمكنني أن أشجع السياحة الداخلية بهكذا أسعار خيالية، أم أن الأمر مقتصر على السياح الأجانب؟!

وبعدها، توجهت إلى الشاطئ المقابل لجسر العيجة؛ حيث كنت أرتاد قبل سنوات رحلات بحرية من خلال مجموعة من القوارب تكون مرابطة لالتقاط السياح، لكنني وخلال يومين مُتواصلين لم أجد أيَّ قارب لا في الصباح ولا في المساء يُبادر للقيام بهكذا رحلات بحرية يستمتع بها السائح ويستفيد منها ماديا صاحب القارب، وكم لمحت أعداد غفيرة من السياح العمانيين والأجانب يرتاد إلى الشواطئ سعيا منهم لأن يجدوا من يخرجهم في نزهة بحرية يستنشقون فيها جمال بحر العفية الساحر، لكنهم ظفروا بنسمات البحر دون ركوبه، قرَّرت أن أرتاد الكورنيش وأن ألتقط بعض الصور لكنني ما إن وجهت عينيَّ إلى زاوية إلا وأرقب مجموعة من الشباب يتجمعون على لعب الورق (البتَّة) وتتناثر من أفواههم جموع غفيرة من حطام (حب الشباب) والذي يملأ باحات الاستراحات دون تنظيف وشذر من (المضغة والغليون)، فانتابني اليأس في أن أجد مكانا مهيأ للعائلة.

... إنَّ هذين المشهدين واللذين هما فيضٌ من غيض ضمن التخبط السياحي يدفعان نحو ضرورة التروي في تبني إستراتيجيات وطنية سياحية، فليس من الصواب أن تُضخ أموال طائلة لمشاريع سياحية نسمع جعجعتها ولا نرى طحينها، ولو تتبعنا إستراتيجيات السياحة الوطنية للدول الرائدة في هذا المجال سنجدها تولي اهتماما حقيقا لمفهوم السياحة ومكوناتها وعناصرها؛ لذا نجد أن فرنسا تتصدر دول العالم بأسره في الاستقطاب السياحي بمعدل 76.80 مليون سائح سنويا، تليها الولايات المتحدة الأمريكية، ثم الصين، ثم إسبانيا، وتحتل المكسيك المرتبة العاشرة ضمن أعلى عشر دول في معدلات استقطاب السياح. وفي الشرق الأوسط -وبالتحديد قبل "الخريف" العربي- نجد أنَّ مصر تشكل أعلى دول العالم العربي استقطابا للسياح بمعدل 14.05 مليون سائح، تليها السعودية ثم سوريا، بينما تحتل السلطنة المرتبة العاشرة ضمن أعلى عشر دول عربية تستقطب السياح بمعدل 1.52 مليون سائح في العام 2009، بينما تغيب السلطنة عن قائمة 58 دولة مستقطبة للسياحة لإحصائيات 2008 التي يصدرها المجلس الدولي للسياحة كل عشر سنوات والذي ضم السعودية، ومصر، والمغرب، والإمارات العربية المتحدة، والأردن.

... إنَّ المتتبع لمعدلات الاستقطاب السياحي في السلطنة -وفق إحصائيات وزارة السياحة- يجد نوعا من الانجذاب الداخلي من قبل المواطنين أو المقيمين لزيارة المواقع الطبيعية والأثرية والثقافية؛ فنجد أن عدد زوار خريف صلالة لعام 2011 من العمانيين بلغ 228000، بينما بلغ عددهم من الدول الخليجية والعربية والعالمية 112000 زائر، وبلغ عدد الزائرين لمحمية السلاحف برأس الحد في العام نفسه 4100 من العمانيين، بينما بلغ عددهم من غير العمانيين 24.534 زائر. وفي الجبل الأخضر، بلغ عدد الزائرين 102000 زائر، كما بلغ عدد الزوار لكهف الهوتة من العمانيين 24200 زائر، بينما بلغ عددهم من غير العمانيين 46335 زائرا.

كلُّ هذه المؤشرات والأرقام تُنبئ بوجود طفرة سياحية واقتصادية في البلد تتطلب مرحلة مفصلية ومهمة في تبني مشاريع اقتصادية وسياحية رائدة، فلا ضَيْر أن تكون هناك قوارب مُهيأة لاستقطاب السياح سواء على مستوى العائلات أو الأشخاص في كثير من شواطئ السلطنة الساحرة، ولا ضير أن تُخصَّص مناطق جاذبة للأطفال والعوائل والشباب كل بخصوصياته في محافل سياحية أغدقت عليها الدولة ملايين الريالات فتكون مرتعا للعبث لعدم وجود قوانين منظمة، ولا ضير أن نُنافس الآخرين في نماذج سياحية طبيعية أو صناعية تستقطب المواطنين لإنعاش السياحة الداخلية بدلا من أن توهب أموال الوطن للخارج.. ما نحتاجه أن نصمت قليلا عن البهرجة الإعلامية والمنشورات العريضة ونستمع لبعض بيوت الخبرة في السياحة، فرب درس علمي سياحي أبلغ من بناء إستراتيجية وطنية هلامية.

تعليق عبر الفيس بوك