الرائحة: أبجدية الإغواء الغامضة!

ليلى البلوشي

يقول الروائي نيكوس كازانتراكس في زوربا: أنا اعتقد أن لكل إنسان رائحة خاصة، وأننا لا نلاحظ ذلك؛ لأن روائحنا جميعا تمتزج بعضها ببعض، فيتعذر علينا تمييزها وردّ كل رائحة إلى صاحبها، كل ما نعلمه هو أن الروائح في مجموعها تؤلف رائحة واحدة خبيثة هي التي نسميها البشرية.

لا أنكر أن اهتمامي بالروائح استفحل يوم قراءة عبارة زوربا هذه التي تحتمل دلالات وتأويلات عديدة، والشيء المؤكد أن عوالم الروائح غريبة ومدهشة وساحرة في حالة تمددت مع رواية العطر لـ باتريك زوسكيند التي فجرت من الروائح عطرا مملوكا بإغواء الموت!

وقطعا لا يمكن النكران أن ليس للبشر فحسب روائح خاصة بها، بل يتعدى الأمر الحيوانات والنباتات أيضا، وهذا ما يؤكده علميا كتاب (الرائحة.. أبجدية الإغواء الغامضة) لـ بيت فرون من إصدارات (كلمة) التابعة لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث للمترجم د. صديق محمد جوهر، جاء هذا الكتاب الموسوعي ملقيا الضوء وتفاصيل الحكايات على إغواء الرائحة في 383 صفحة، يستعرضها المؤلف في تسعة فصول بدءا من تاريخ الرائحة والشم إلى الخاتمة التي تختصر السرد المسهب طوال فصول التناول.

في هذا الكتاب سوف يعرف القارئ علاقة الرائحة بحياته على مستويات الانفعالات والسلوكيات وعلاقاته بالآخرين ونفسه أيضا و صلّة ذلك بشؤون القلب والعاطفة والصحة، ولا تشمل البشر وحدهم بل تتعدى التأثيرات عوالم الحيوان والنبات.

فمن حيث التاريخ حمل القدماء من الفلاسفة وعلى رأسهم أفلاطون حملة شعواء على العطور من حيث كونها أداة للتخنث واللذة الجسدية في زمن كان فيه استعمال العطور وقفا على بائعات الهوى!

ولم ترفع تلك النظرة الجاحدة عن العطور حتى تفشت الأمطار ورطبت الأجساد والأوضاع فشاعت الروائح الكريهة المصاحبة للأمراض، حتى توصل بعض الأطباء أن مبعث جواز استخدام العطور هي الروائح النتنة التي تصدر من الموتى في المستشفيات، والتي تتخلل من خلال الجلود، فتسبب الأمراض، فكان لابد من الاستحمام واستخدام العطور.

ومع الزمن تطورت الاكتشافات، وتكاثفت علاقة الرائحة والشم بالسلوك والانفعال والعمر والذاكرة، فمن حيث العمر، الجنين تبدأ حياته الشمية في فترة مبكرة من الشهر الخامس بإلهام رائحة رحم الأم، ثم تكبر مع البالغين، ونضج الحاسة الشمّية يتم في سن الثلاثين، ويتقلص نوعا ما في سني الأربعين والخمسين وما فوق، تبعا لصحة الإنسان وظروفه مع أخذ الاعتبارات أن ثمة فوارق ما بين المرأة والرجل، فالمرأة تفوق الرجل في مضمار الرائحة من حيث الشم وتمييز الروائح ومعرفة أسمائها.

أما من حيث الذاكرة، فالروائح تنشط الذاكرة العشوائية، بل أحيانا حاسة الشم تقوم بدور مشغل حركة السيارة، والذي من شأنه أن يستثير كل الخبرات التي يلوح لنا أنها راحت طي النسيان وكل الوقائع القديمة في الزمن البعيد.

والروائح تؤثر على التفاعلات بين الناس والتواصل معهم، فعلى سبيل المثال في ألمانيا يقال: أنا لا أطيق رائحته. أما على مستوى الصحة فالروائح النتنة تضاعف من حدة شعور الإنسان بالإجهاد والضغط العصبي، وناهيك عن الروائح العشبية الزكية التي تريح الأعصاب، وتخفف من أعراض الاكتئاب، وتضاعف النشاط كرائحة الصنوبر.

ومن الغرائب التي عرضها الكتاب، أن رائحة الإبط التي تفوح من النساء المقيمات في سكن واحد تجعل فترات الحيض لديهن تتزامن في الوقت نفسه!

وثمة ارتباط ما بين حجم الأنف ودرجة فحولة الرجل، حتى في الأزمنة الغابرة كان الزناة من الرجال يعاقبون ببتر الأنف، وكان الأطباء ولحد قرون قريبة يعتقدون أن بوسعهم التيقن من عذرية الفتيات بتشمم أنوفهن!

ومن المدهش أن رائحة الليمون تساعد الكتبة من الموظفين على تقليل أخطائهم في إدخال البيانات إلى الحواسيب الآلية وفي المعالجة اللغوية، ومن الطقوس المعتادة في اليابان قيام الكثير من الشركات هناك بإضافة روائح مختلفة إلى الهواء طوال اليوم فرائحة الليمون في الصباح، ورائحة الزهور فيما يلي ذلك، وفي فترة الظهيرة تقوم بنشر رائحة الغابات رفعا للمعنويات!

أمّا الحيوانات فلها رائحتها تلك التي تجذب بها مثيلها من الكائنات للتكاثر، وروائح أخرى تطلقها للحماية من الأخطار المحيطة بها عن طريق ما يسمى بـ الفيرمونات، بينما في مملكة النباتات، فمن الغرائب أنها تفرز روائح في حال تعرض إحداها للخطر من الحشرات، فتنذر الأخرى للمقاومة، كشجرة الصفصاف إذا ما أصيبت بآفة علتها حشرات معينة، فإنها تطلق رائحة من شأنها تحذير قريناتها من الأشجار.

الكتاب زاخر بمعلومات قيّمة، أشبه بموسوعة شاملة -نوعا ما- عن عوالم الروائح الغامضة، ولكن ما يؤخذ على الكاتب تلك التفاصيل الزائدة عن حدها، وتكرار بعض المعلومات وتدشينها في أكثر من فصل، ومن ثم اختصار أهم نقاطها في الخاتمة، ما يشيع نوعا من التململ عند القارئ، لكنه كتاب يستحق أن يطلع عليه القارئ عموما، ويختصر معلوماته الشاملة في أفكار صغيرة وعناوين متفرقة ما يفي بغرض الإفادة على الصعيد النفسي والشخصي والسلوكي.

ويبدو أن تفاصيل الكاتب المتشعبة عن حدها فجرت في نفسي إغواءً من نوع آخر عن أثر الروائح الأخرى في حياتنا، فاستلمتني فلسفة من نوع ما: رائحة الخوف؟ ما لونه؟ ورائحة الضمير ما تأثيره؟ ورائحة الحرية والكرامة والظلم والاستبداد والفقر والغنى وهلم جرا!

فآه … ثم آآآآآآآآآآه من إغواء الرائحة الغامض!

Ghima333@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك