الحمامة التي باضت في طريق الفيل

ناصر أبو عون

هل تعرفون حكاية (الحمامة التي باضت في طريق الفيل؟!).. بالطبع الكثيرون منكم لم يسمعوا بها من قبل وأجزم أنكم جميعًا لا تعرفونها!! ولكن أُعاهدكم أن أخبركم بها في النهاية.. وإنني في هذه المقالة العابرة على جسد الصحيفة لن أمارس معكم لعبة (جلد الثقافة العربية) كما يفعل الكثير من (الكَتَبَة، والمستكتبين)، ولستُ موظفًا في (الادِّعاء العام الثقافي) لكي أُسائل المثقف العربي والإسلامي؛- وهل يوجد لدينا مثقفون أو متثاقفون؟! - ولستُ واعيًا بالقدر الكافي كي أستطيع التفرقة بين (بيضة فابرجيه، وبيضة النعّامة) أو فيلسوفاً من عصر النهضة كي أميّز بين (الثقافة)، و(الرطانة). في مصنع (تعبئة وتعليب وتغليف) الأفكار في مقاهي ومطاعم الندوات السريعة!!

الحقيقة الأكثر مرارةً يا أصدقائي أنّ (الحمامة باضت في طريق الفيل) عندما كان أبناؤنا يترجَّلون خارج الخطوط المرسومة على خرائط الأوطان من قِبَل رجل أبيض (ادّعى أنه بذل جهودًا مضنية لكي يفهم حقيقتنا)، و(يسطو على مقدّراتنا)، و(يعيد كتابة تاريخنا) من وجهة نظره الاستعلائية (كثيرًا) والمتواضعة (أحيانًا) والجاهلة بحكمة بداوتنا(أحايين كثيرة)، ويتفنن في (تقسيم المقسّم وتجزئة المجزأ).

الحقيقة الأكثر فداحةً يا أحبائي أنّ (الحمامة باضت في طريق الفيل) عندما كان أحفادُنا من (المحيط إلى الخليج) يُطلّون من (شرفة الرَّمل) المدهونة بـ(القار)، على (الغرب الحداثوي) وفي يديهم مسرجة تضيء بالجازولين، ويتأملون خيرًا في(الرجل الأبيض) الذي نجح في أن يصدّر لنا (العنصرية) مغطاة بالشيكولاته ومغلّفة بأوراق القصدير المفضَّضة. ويوَّرِد إلينا (فكرة الجيتو) في (شكل مدن حديثة نخبوية) عزلتنا عن أهلنا وتاريخنا. ويهيء أبناءنا لإزالة الحواجز النوعية بين (الجنسين) بوداعتها وغطرستها في معلبات ثقافية، و(أكلات سريعة) مزروعة في كل شبر من (الوطن العربي الكبير) فخرجت لنا في شكل فضلات (طائفية)، ونعرات (عرقية)، ورؤى (مذهبية) على (صفحات الجرائد وشاشات التلفزة، وفي واجهات المواقع الإلكترونية)، و(تغريدات شيفونية) امّحت معها كل التفاصيل الدقيقة بين (الذكورة والرجولة)، فشاهدنا كائنات ممسوخة تسير على رجلين في شوارعنا في محاولة يائسة لمحو إنسانيتنا وتصفية ذاكرتنا وإخراجنا من دائرة (المستقبل) والعودة بنا إلى (الجاهلية الأولى) في عصر ما قبل التاريخ، وتصوير حياة أجدادنا قبيل الإسلام بأنها كانت عدوا لكل ما هو عقلي وإنساني وهو قول يناقض الحقيقة وينافي المنطق فحضارتنا الإسلامية لم تولد فجأة؛ فلكل حضارة عظيمة مقدِّمات وإرهاصات وهواجس تمهيدية. ففي الوقت الذي كان الفرس والروم يعيشون فيه صراع الغطرسة والانتقام الدموي نجح العرب في إقامة (ممالك وقبائل وحياة أخلاقية ودستور من القيم العليا) في مقاصدها وأفكارها وراقية في تراثها اللغوي وإنتاجها الإبداعي والأدبي- وإن كانت مازالت مخطوطتها وتاريخ تطورها في طيِّ النسيان).

ومن فداحة تنكرنا لجميل أجدادنا مازالت هناك فئة عاقّة تتنكّر لكل إنجاز عربي قديم وتُصدِّق كل فرية روج لها المستشرقون المغرضون عن (جاهلية ما قبل الإسلام)؛ بل تأمرنا (بغضُّ الطرف) عنها وتدعونا إلى عدم الخوض فيها واعتبارها من (التابوهات) التي لا يجوز المساس بها؛ ومن ثَمَّ سعى العقل العربي الحديث إلى إسقاطها من ذاكرته المهترئة، وإمعانًا في (التناسي القصدي) استعاض بعضنا عن ذاكرته المهترئة التي تؤلمه، وضميره العربي النصف حي النصف ميّت بـ(ذاكرة سمكة).

وأمعن غالبيتنا في (الانفصام) والخجل من (بداوتنا)، و(قيم صحرائنا)، و(كنوز خيمتنا العربية المنتصبة في أعالي الجبل)، و(سلاسل النخيل التي تعانق السماء) والاستعاضة عنها بـ(النخلة الكهربائية) التي تطالع القادمين إلى الخليج من نوافذ الطائرات، وبعضنا يداري (قوافل الإبل الراعية في السهول) وكأنها سوأة العار وخطيئة الطبيعة، وراح يخصف على تاريخنا العربي من (ورق الحداثة) ويُعلن (انكبابه)، و(تهافته) على سد (جوع عقله) باقتطاف ثمرة أشجار الحداثة الكاذبة التي ما أنبتت في أرضنا غير التمزّق والألم).. هذا عن مجانين الحداثة.. أما على المقلب الآخر؛ فهناك ثُلة من المثقفين المتقولبين داخل(قلعة التراث العربي) ويجلسون القرفصاء داخل (رحم الثقافة العربية والإسلامية)، وينزوون في ركن قصي من (المدونة الإسلامية)، ويخدعون أنفسهم بأنَّ القرن الهجري الأول هو خير القرون، ويأملون في (عودة الخلافة) ويطوحون أفكارا في سماء الخيال العربي المريض ويروجون لرؤى ميثالوجية كاذبة ويلقنون أبناءنا قصصا خيالية ويزرعون في عقولنا حكايات عن (العصر الذهبي)، ويحكون قصصا عن (الملائكة التي كانت تصافح الناس في طرقات شبه الجزيرة وعصر الفتوحات)، وكأنّ الرجوع إلى الماضي فيه حلّ لكل مشكلاتنا وإخراجًا لنا من كل مآزقنا.. يا أيها الغارقون في بحر لجي من ظلمات الماضي نحن في حاجة إلى الخروج من (الشرنقة) من الإطار المحلي إلى الفضاء الإنساني وتمديد أفكارنا كبشر خطاءين إلى مسارب الفضاء العالمي؛ إننا نحتاج إلى الخروج من (النفق المظلم) من(الصراع الغائب الحاضر) على مسرح الحياة صراع المثقف (القيم\ الحرية) ومعادلها الموضوعي ضد السلطة القاهرة (الأمراض المجتمعية) وتغييب سلطان العقل؛ نريد إقناع ذواتنا بفكرة احتياج العقل العربي إلى الحريّة المسؤولة، كي نتجاوز لعبة التكفير والتخوين، نحتاج إلى حوار داخلي وخارجي مع أنفسنا ومع (الآخر) كي يتم التصالح مع الهوية والوطنية والانتماء الفكري. فإذا كان تعريف المثقف هو " الإنسان الحاضر كلياً في معمعة الذات المتماهية بكل الأساليب والكيفيات في ملحمة العولمة المعلوماتية " (خليل أحمد خليل) فإنّ واقع الثقافة العربية الراهنة يتجلى بصورة تجعل الإنسان العربي محصوراً بين سلطتين (سسيوثقافية) وتمثلها شخصية (المثقف في برجه العالي) وفلكلورية ومعادلها الموضوعي شخصية (الدرويش المشعوذ/ الخطاب الديني المؤدلج والمسيّس/ المثقف المنفصل عن واقع مجتمعه)، في الوقت الذي يتمثل فيه الهدف الحقيقي لكل ثقافة بالحرية المسؤولة، والتحرير بالثقافة نفسها. إننا في هذه المرحلة نقف أمام (ثقافة الأزمة) وجهاً لوجه، لتصبح العلاقة بين (الإنسان والعقل)، و(الثقافة الحرة المسؤولة) علاقة ديناميكية تقتضي الدفاع عن حرية الإنسان، وعن حق العقل في القول والفعل الإبداعيين.

وإذا كان صديقي (محمد الكبسي)أشار سابقاً إلى فوضى الحد والدلالة القائمة في (العلاقة بين المثقف والسلطة)القائمة على (التأثيم المتبادل) الذي يجعل قيام (منظومة شراكة) بينهما موضع شك وريبة. هذه العلاقة التي كان من الممكن أن تستمر في أشكالها السابقة دخلت مع الألفية الثالثة مرحلة جديدة فارقت فيها دلالتها السابقة، نظراً لكون هذه الألفية أضحت (تعيد بناء العالم على نسق سريع منذ العشرية الأخيرة للألفية الثانية في هذا السياق)، وتحولات تلك المرحلة يمكن رصدها في الحوار المتبادل بين شخصيتي (شاهد على الزمن، وضاحك على الزمن) وفي اعتقادي أنهما شخصية واحدة هي شخصية (المثقف الواعي) وهي تناقش الواقع برؤية فلسفية عبر منولوج داخلي ولكن الفعل (الإنساني) اقتضى ظهورها على مسرح الحياة في شخصيتين؛ حيث الشخصية الأولى (قادرة على ممارسة الحلم/ شاهد على الزمن) بينما الشخصية الأخرى(ضاحك على الزمن) ترى من العبث البحث عن علاقة المثقف بالسلطة في إطارها المعهود لأنّ الأمر لم يعد (يتعلق بقدرته، أو عدم قدرته على أن يكون في خدمة هذا الحاكم، أو ذاك الحزب، وإنما يتعلق تحديداً بالاستعاضة عنه بالوسائط التكنولوجية).

وإمعانًا في الانفصام، وإيغالاً في المأساة تتعالى إلينا أصوات (البنويين العرب) نسبة إلى النظرية البنيوية مطالبين بالقطيعة مع التراث تحت مسمى (نظرية قتل الأب) اعتقاداً منهم بأن التخلص من التراث العربي سيكون خطوة عملانية على طريق التحضّر والتقدّم. غير أنّ هذا التوجه في حقيقته انتحار للحضارتين العربية والإسلامية) بالمعنى المجازي، وإذا ما تخلينا عن لغتنا وتراثنا فقدنا هويتنا.

وهذا التوجّه (اللاثقافي) يجعلنا لا نقول بـ(أزمة مثقف)، أو (أزمة سلطة)، فالبحث عن الفاصل النوعي بينهما - كما يعتقد محمد الكبسي - أصبح يعادل الانفكاك عن المعاصرة التي أدت إلى ضمور (الهويات المحلية)، مما يستدعي منه أن يلامس كل القضايا العالمية بعمق مغاير لعمق محليته، وتكون المعاصرة بالنسبة إليه هي التنوع، الذي يجب أن يكون الحديث عنه حذراً بالنسبة (للمثقف العربي والمسلم) نظراً لالتباس الدلالة المرتبطة به، فالوقوف عند الثقافة العربية الإسلامية مدخل ضروري، إلا أنّه لا بد أن يتغذَّى المثقف من مكتسبات الثقافة العربية الإسلامية والعالمية من أجل الدخول معهما في حوار، فيتحول من ناقل أفكار إلى (مؤسس لمبادئ جديدة تُسائل الثقافة العربية الإسلامية)، وتخرج من إطار (الثنائيات) .

Nasser_oon@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك