صرخة مواطن

د.سعيدة بنت خاطر الفارسية

العمل عبادة، بل سجادة صلاة ترفعنا إلى برزخ النور؛ لنعدو بأجنحة البرق حيث الرضا الرحماني لمفاتيح الجنان، ولمَّا كان العالم يحتفل في الأول من مايو من كل عام بعيد العمال، كان مُناسبا أن نتناول موضوع العمل، بعد اتصال هاتفي وردني حول الموضوع ذاته.

لعله لا يوجد دين في العالم احتفى بالعمل وقيمته للإنسان كما رسخ ذلك الدين الإسلامي الذي تناول هذه القيمة عبر الآيات القرآنية والأحاديث والأقوال المأثورة.. قال تعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" (سورة الملك: 15).

ومن المعروف أنَّ الأنبياء والرسل عليهم السلام، كانوا يكسبون قوتهم بعرق جبينهم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده". لقد جعلهم الله قدوة لنا نحتذي بتعاليمهم وبأفعالهم وأقوالهم؛ فمن الواضح أنَّ الإسلام يُحارب الكسل والتواكل، ولا يُريد أن يكون المؤمن ضعيفاً أو محتاجا فيستذل "لأن يأخذ أحدثكم حبلا ثم يأتي الجبل، فيأتي بحُزمة من حطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجههُ، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه".

... لقد كتبَ لي أحدُ الأصدقاء شاكيا ظرفه الصعب، وتجاهل وطنه لكل سعي قام به، من أجل الحصول على عمل يحفظ به ماء وجهه وكرامته، ويلبي حوائجه الإنسانية، وقد كنتُ عاتبة لائمة له دوما على تكاسله في السعي لطلب الرزق والوظيفة، لكنه فاجأني مؤخرا بأنه لم يترك بابا إلا طرقه عبر الحكومة خاصة، وأنه قد دخل على معظم الوزراء على مدار 15 عاما، ابتداء من وزارة الزراعة، مرورا بالديوان، وانتهاء بالخدمة المدنية، وأن جميع الوزراء القدامى منهم والجدد كانوا يعدونه بالخير، وتأتيه كلمة "أبشر، وسيتصل مكتبنا بك"، ولم يتصل أحد، ولم يتحقق شيء من البشارة، حتى أصابتْ الرجل كآبة موجعة.. فماذا يفعل وهو بمعدل كل شهر يتكلف تذكرة طيران إلى العاصمة؛ حيث مركز ثقل الفعل، ويتكلف مبلغا للإقامة وللتغذية ليتابع موضوعه في مسقط، من أين!! لاتسألوا المتعفف من أين لك هذا!! لأن السؤال في حد ذاته ينكأ صبرا غائرا ربما لم يجف وجعه بعد، وحتى أكون دقيقة سأورد لكم رسالة المواطن التي وجهها لي مكتوبة يقول فيها: "لقد حاولتُ منذ إقالتي من وزارة الزراعة عام 1991م، أن أعود لوظيفتي التي فقدتها بسبب مرافقة أخي المريض للعلاج في الخارج، لكنهم اعتبروها انقطاعا عن العمل وفصلوني، وقد تقدمتُ بالتماس للوزارة، واستمررت على مواعيد مع الوزير الهنائي لمدة ما يقارب 4 سنوات دون جدوى، ومن ثم أحالني لوزارة الخدمة، وظللت كرة بين الوزارتين لعدة سنوات، مواعيد ومخاطبات بينهما لإيجاد حل للرجوع، وبعد سنوات مرورا بأربعة وزراء بالخدمة المدنية مرت دون فائدة للأسف، بعدها لجأت إلى الوسائط والتوصيات لعلها تفيد شيئا وجاءتْ التوصيات من جهات رسمية وشخصية وأمنية تعد بأن تبذل مساعي العون لكن النتيجة كانت (صفر)، قابلتُ السيد وزير الديوان السابق في بيته فتذكر مقابلتي له عندما كان وزيرا للداخلية، وقد أحالني آنذاك إلى مكتب حفظ البيئة في الديوان بعد أن أشر على الأوراق، أنهيتُ إجراءات التعيين كاملة، وبعد مرور عامين طلبوا مني شهادة تقدير سن لكن توظيفي لم يرَ النور، وينهي المواطن رسالته بأنه قدم لهم تقدير السن صارخا "خلونا نعيش بكرامة في وطننا"، قالوا: "انتظر"، وإلى الآن نحن في الانتظار، صبرنا حتى نشف ريقنا في عصر تميز بالخير والعطاء، وبفضل الله وجلالة السلطان ومحبتنا الصادقة له ما زلنا صابرين".

انتهتْ رسالة الأخ، والسؤال: أين يكمن الخلل؟ ولماذا يُراجع هذا الشخص منذ أن أقيل من الوزارة سنة 1991م، ولم يُوظف، رغم كل الالتماسات والسعي الحثيث. طبعًا أسهل الأقوال أن نحمل المسؤول شتى الأوصاف غير اللائقة، لكن في الحقيقة هناك حلقة ما مفقودة في هذه الحكاية، تستدعي هذا السؤال: لماذا توظف الآلاف ولم يوظف هو؟!

وليتحملني مُرسل الرسالة، فلا تعني صداقته أن أتبنى قضيته دون نقاش هادف.. فمبدأ "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" ليس مُناسبا هنا، لكنني أقول له: لا تنتظر أكثر؛ فمنذ 15 سنة كان من المحتمل أن تحصل على وظيفة. أما الآن، فقد ركض بك العمر، وسبق السن العذل، الحقيقة أن حكاية الصديق تتلخص في عقبة لم تنتبه لها قوانين العمل العمانية، وهي قوانين تجاهلتْ فئة من الناس تجاهلا تاما، وركزتْ على فئة واحدة؛ فالرجل قد تجاوز سنه الخمسين عاما، بعد سنوات الانتظار العجاف، وهذه الفئة قد حكم عليها مسبقا بالتجاهل في معظم قوانيننا المتعلقة بالعمل، هذه الفئة إذا طالبتْ بالعمل يقال لها بشكل ضمني غير واضح، دعونا نسد احتياجات الشباب للتوظيف أولا، فإن ذهب للبنوك لأخذ قرض ما، قيل له ضمنيا متى ستسدد والموت بانتظارك، فإن لجأ للشركات خضع لعملية تنقية رهيبة وسيتم توظيف فئة معينة ترغب بها الشركات من ذوي الخبرات والمناصب السابقة، بل وسيتنازع على هذه الفئة، وستنهال عليهم العروض الأجمل. أما أمثال أخينا؛ فمن الطبيعي أن يقال له: "لقد بلغتَ من الطلب عتيا، اترك الفرصة للشباب". أما إذا ذهب لصندوق الرفد وما ماثله فسيقولون له بأدب واحترام: "شروط قرض من هُو في سنك صعبة؛ فمتى...". وحتى لا يربط بينك وبين عزرائيل ضمنيا، ستشكرهم على الأقل لردودهم المهذبة.

إذن؛ عموم هذه الفئة مقصية عن اهتمامات المشرع في بلادنا، وكأنهم أخذوا الفرصة الذهبية وانتهتْ؛ فعليهم أن يُدبروا أنفسهم، فإن قل تدبيرهم كأخينا ليشرب من بحور السلطنة. والحقيقة أن كثيرا من هذه الفئة قد دبر نفسه، لكن تكمن مشكلة الأخ في أنه فلان الفلاني، وهو في حد ذاته لن يقبل بأي وظيفة متواضعة في أي شركة، وذلك من باب عزيز قوم، ومن هنا أحمِّله اللوم وألتمس له العذر في الوقت نفسه، لكن يبقى لنا أن نقول يحق للمواطن أن يحظى بفرصة عمل تحفظ له ماء وجهه، وتصون كرامته وتلبي احتياجاته الذاتية، والأسرية فلا يقنعني أحد، أن أولاد هذه الفئة العمرية قد توظفوا، فمهما كان الأمر لا يستطيع الأب أن يمدَّ يديه لابنه أو ابنته طالبا منهم العون الشهري؛ فإذا كنتُ أنا كامرأة أرفض هذا فما بالك بالرجل! ومن أين العون والأبناء قد ارتبطوا بأعباء الزواج والديون ومتطلبات الحياة المعاصرة، وقد اعتاد الأب والأم على أن تكون لهما اليد الطولى فيُعطوا الأبناء لا العكس! فإنْ كان في عنق الرجل تبعات زوجة وأم كان الأمر في غاية الإحراج والصعوبة، هذا إضافة إلى نظرة الناس للعاطلين، وهي نظرة تشوبها الاتهامات المبطنة بالتكاسل والتواكل وبكل ما يرفضه الدين والمجتمع.

الحقيقة ينبغي أن يكون هناك مخرج لأمثال هذا الرجل؛ فالإنسان لا عمر لاحتياجاته طالما يدبُّ على هذه الأرض، والاستغناء لا يأتي للبشر إلا بعد أن يُهال علينا التراب.

ثم لماذا هذا الإسهاب في الوعود السيالة بالبشرى والصبر والتصبر والانتظار حتى انتقل الرجل من الشباب إلى مرحلة الكهولة؟ لماذا لا نصارحه بأن عمره كذا، أو مستوى تعليمه كذا، أو ملف سيرته كذا، وهذا يقلل من فرص التعيين أو يمنعها؛ وبالتالي سيخرج الرجل باحثا له عن مخرج آخر، لا يجلس يعدُّ نجوم الوهم والغد القادم محمَّلا بسحب كاذبة الودق، نعم لعلهم يستحون من مصارحته، لكن هذا تجاهل واستهزاء باحتياجات الناس، ثم لماذا يقف الموضوع أحيانا لدى أصغر موظف بعد أن يتم التأشير عليه من الكبار؛ هل لأن كلًّ منا ينفس همه فيمن هو دونه، ومن يستطيع أن يتحكم فيه؟ هذه علة من العلل؛ فصغار الموظفين قد يتحكمون في مصائر الناس أكثر مما يظن البعض، ولا رحمة مع أننا نكرر قول الله وقول الرسول بضرورة التمسك بمعاملة الناس كما تحب أن يعاملوك.

الحقيقة أنَّ المواطن طلب مني بإلحاح أن أعنون هذه الرسالة بالعنوان التالي "صرخة مواطن لقائد البلاد"، وأكمل: "حتى يطَّلع حفظه الله على معاناتي واحتياجي وتجاهل المسؤولين لهذه المعاناة"، وها أنا أنفذ الطلب بعد تناوله من عدَّة جهات، وأرفع صوته للمسؤولين وللمجتمع أفرادا ومؤسسات؛ إذ لا ينبغي أن نترك شوك الانتظار والصبر يتطاول ويتكاثر حتى يسمم القلوب ويدمي أمنيات التفاؤل.

تعليق عبر الفيس بوك