شيء من الشتاء

جمال القيسي

شؤون شخصية قد تنفع في التأريخ للراحلين والباقي من الراحلين.. فيا سادة يا كرام: ذات ليلة شتائية دافئة، كنّا ثلاثة؛ نتحلّق حول جمر يتوهج ويخبو مثل شهيق وزفير. وبنعومة أنفاس طفل غرير، كنت أراقب الجمر أكثر من الحديث. ثلاثتنا لم نصعد الثلاثين من درجات العمر، الكاتب الكبير والإنسان الساخر الراحل محمد طمليه، والشاعر المرّ ماجد المجالي، وأنا. حين قلنا كل ما لدينا، وحللنا عقدة من لسان العالم، وسيرنا الجبال، وأقمنا دولة الحق والخير والجمال، وضحكنا وغنينا وشدونا. وحين اشتد وهج السخرية والنقاء والوعي، وتراخت الليلة شهية مثل حبيبة متمنعة، قال محمد كأنه يقدم تعزية: "إن الذين يمرون دون اكتراث عن رجل يجلس وحيدا على مقعد يتسع لاثنين في حديقة عامة، هم أنفسهم، من يتوقفون متأثرين في معرض تشكيلي، أمام لوحة رجل جالس، على مقعد يتسع لاثنين في حديقة عامة". بضحك أسود لطمه ماجد لبلاغته اللاذعة المعهودة، لكن محمد في هذه العبارة صفع، ليلتها، قلبي!

الآن هنا. بلا زمن في الصحراء. لم أر ماجد، دام ربيع قلبه، سوى ساعات منذ عامين، وما يزال محمد يتأخر عن ليالي الشتاء منذ سبع سنين.

لكن ماجد طلب مني قطعة أدبية ساخرة، ردا لجميل معروفه بتذكيري بمقولة محمد تلك التي شكوت له من وخزها، طالبني بقطعة ساخرة، ووعدته.. وحين خلدت إلى تفكيري، وجدت في بريدي الخاص على الفيسبوك رسالة من ابن عمي الفاضل/ خلف العودة. كان وما يزال محبا للغة، وما يزال يعتبرني كاتبا ساخرا استثنائيا (ربما لصداقتي بطمليه!)، المهم يسألني ابن العم خلف العودة عن آخر كتاباتي، فأخبرته أني على وشك كتابة نص "ديلفري" لصديقي ماجد، ضحك وقال: "احسب حسابي".

صديقي العزيز .. نحن نبحث كل لحظة وعند كل منعطف وداخل كل حارة زنقة زنقة عن الحلول والخلاص لهذه الأمة، أعتقد أن حلول شهر رمضان (المبروك علينا) مقبول لحلها؛ وهنا أهتبل الفرصة لتهنئتكم بعيد العمال على بطال، راجيا من المسافرين الكرام (واللؤماء) إلى أمريكا عدم العودة. ومن ابن عمي العزيز الدكتور اللغوي العقيد المتقاعد "خلف العودة" سمعت لأول مرة (لكن وراء الأكمة ما وراءها) وحين تقدم بي عمري (انتا عمري) أدركت أن ابن العم الفاضل، ضرب المثل في غير محله (ضربه ضربا مبرحا). كوني درت وراء الأكمة؛ فلم أجد شيئا وراءها سوى الأوهام، اليوم أقول للرفيق خلف العودة (لا الفريق لأنه تقاعد برتبة عقيد): رفيق خلف. مبارك عليك الشهر الفضيل وأنا يا رفيق خلف، في صف العمال ولن تنطلي علي ولا عليك يا صديقي أعياد زائفة.

كما أقول للرفيق خلف وللكلام لماجد وللسامعين: لا تناقض بين يساريتي، وكون العمال طبقتي وقضيتي، وبين كوني من المسافرين الكرام غير الراغبين بالعودة من أمريكا حين تحلق بهم صوبها رحلة العودة (العودة المقصودة هنا لأمريكا وليس اسم والد ابن عمي خلف) حيث لا أكمة هناك ولا حسكة، والحسكة (قزاز والسلم نايلو ف نايلون). وللبقية حديث صحيح يا ابن عم. ومبارك عليك ترقيتك، اليوم، إلى رتبة رفيق. وصح لساني حصاني. (وصح يا رجال)؟

لم يكترث الرفيق خلف بكل ما كتبت سابقا لأنه مشغول بسؤالي عن هذا البوست على الفيسبوك:

عملت مع أمريكيين وأوروبيين. كانوا يذوبون خجلا إن تأخروا عن موعد دقيقتين، لكن أعينهم كانت تفيض من شدة الضحك حين كنت أتفهم اعتذارتهم الصادقة؛ فأقول لهم: لا بأس. لا بأس . يا جماعة الخير وحدوا الله (أقولها بالإنجليزي طبعاً) لا يضيرنا التأخر مطلقا، يا جماعة. لدينا مثل شعبي يقول (كل تأخيرة فيها خيرة)! جماعة الخير (بالانجيلزي طبعا) لم يستوعبوا معنى أنه كلما تأخرت لابد أن هناك خيرا في ذلك!

يسألني لماذا تقدمهم على أنهم أفضل منا في كل شيء وعلى طول! لا يا ابن عمي لا.

تعليق عبر الفيس بوك