سوق الحافة.. حضارة تباع

زينب الغريبية

منظر الأسواق العتيقة يحملني لأعيش في لحظات تاريخية زخرتْ بها تلك المنطقة في عصور خلت.. تفاصيل المكان تُلهمني كيف عاش الإنسان في ذلك المكان، وكيف بَنَى، وكيف مارس حياته، رغم التحديثات التي تدخل عليها من باب الصيانة وتغيير هوية المنتجات التي تباع فيه حسب تطور العصر وما يُواكبه من تطوُّر العرض والطلب من البضائع، إلا أنَّ المكان يبقى هو المكان؛ تتعاقب عليه الأجيال ليأتي كل جيل يحافظ على مكتسباته، ويطورها حسب احتياجات العصر بما لا يلغي هويتها وأصالتها، بما يحافظ على هوية المكان وصورته الحضارية الأصيلة.

لستُ ضد التطوير، وزيادة الإنشاءات، إلا أنني ضد نسف الحضارة ومعالمها، والحضارة توجد في كل طوبة من بناء شخصي أو تجاري، يحمل سمات العصر الذي بني فيه، حتى وإن كان عقدا من حقبة زمنية، فلا يجدر بنا نسف بناء حتى ولو تم بناؤه في بدايات هذا القرن الحالي بغرض تطويره، بل من الأفضل صيانته، وإدخال تعديلات عليه بشكله القائم، وطرازه الموجود عليه، ومن الممكن إضافة لمسات للعصر الحالي بما لا يلغي هويته الأصلية، من باب الحفاظ على مراحل الحضارة الإنسانية.

هنا.. أتحدَّث عن إزالة بناء واحد؛ فكيف الحال إنْ كانت الإزالة لسوق بأكمله؟! هل انعدمت المساحات الساحلية لبناء مشاريع سياحية عدا تلك المساحة التي ربض عليها سوق الحافة التجاري منذ أن فتحنا أعيننا على الدنيا، كنت أسمع عن وجود رغبة في إزالته، ولم أتوقع حقيقة المضي في تحقيق هذه الرغبة، لم أتوقع حتى رأيت بأم عيني حين زرت صلالة قبل عدة أسابيع لأنصدم بما رأيت، وانهمرتْ دموعي على كل طوبة أصبحت هشيما، أهكذا تُصادر مراحل حضارية من حياتنا؟ حياة أجيال تعاقبت على السوق، وعرفته سوقا تأتي وتذهب عليه، حتى لو لم تكن ترغب في شراء شيء منه!

سوق الحافة الذي امتدَّت سُمعته كسوق لكل أنحاء عمان وخارجها؛ فما من سائح يدخل صلالة إلا ويتجه إليه، كان من الأحرى تطوير تلك المحلات التي امتدَّت مُتلاصقة ببعضها على طول الشارع، على شكلها الذي كان، ومن الممكن إعادة برمجة الأدوات والبضائع التي يتم تداولها فيه لتكون أوسع من مجرد خياطة، ليواكب مشاريع السياحة، ويكون سوقا تراثيا متنوعا، كبيرا بأجنحة وزوايا، ومنتجات متنوعة تلبي رغبات السائح والمواطن والمقيم، فهل من الصحيح أن نلغي سوقا صمد لعشرات السنين -إن لم يكن أكثر، ولكن هذا في حدود ذاكرتي- من أجل أن نبني مشروعا عصريا مختلفا تماما عنه.

كنتُ مُنذ عدة شهور في سوق برازيليا الشعبي، لم يكن عريقا في بنائه كمدة زمنية؛ إذ إنه يتبع عُمر المدينة الحديثة التي بُني فيها -أي في حدود الـ60 عاما- إلا أنه كان بطابع شعبي بسيط، يعكس هوية البرازيل، فما يعرضه يتناسب مع احتياجات المواطنين والسياح، ورغم حداثة المدينة لم تكن لتلغي مكانا بسيطا ببناء صغير يمتد أفقيا، يحمل حضارة شعب. فعندما نحد مساحة السوق ليتسع لأقل من عشرين محلا ونقول بذلك يكفي لأن يكون سوقا، ونلغي ما تبقى من مساحة لاستغلالها لمشروع مختلف في غاياته عن كونه سوقا، بأي منطق يمكن أن نحسبها؟

أنا مع التطوير العقاري والسياحي، والنهضة العمرانية التي تحقق تقدما أفضل، وتنشيطا للسياحة واستجلابا للسائحين، ولكن التخطيط الجيد يحتم علينا اختيار القرارات في موقعها، وأن لا يقوم الشيء على حساب شيء آخر، وأن لا نلغي جانبا مهما في مقابل بنا شيئا آخر مهم أيضا، ولكن البحث دائما على تطوير ما هو موجود ليصبح في صورة لائقة، ويعطي للمكان خصوصيته، ويبرز حضارة المكان وهويته.

لا أُحبُّ أن أقول وداعا يا معظم سوق الحافة، فوداعك يعني وداع مرحلة حضارية من الزمن، ستكون مفقودة في مراحل قادمة من الحياة؛ فهو الآن أصبح في ذاكرتنا ولكنه لا يوجد في ذاكرة أبنائنا، فبانتهاء جيلنا يكون قد عفا الدهر عن مرحلة من الزمن شهدت حركة بنمط معين في شارع حافل بذكرى هوية شعب ونمط عمراني معين اتخذوه كمعيشة لهم ثم حولوه لسوق، يقف البحر من ورائه، يشهد على كل ما جرى به، من حياة وتناوب أجيال عليه، حتى أصبح هشيما كأن لم يكن.

... إنْ كُنَّا سنتخلى عن حضارتنا شيئا فشيئا من أجل أن نبني ونعمِّر، فنحن بذلك نقول بأننا ننسلخ من جلودنا شيئا فشيئا، فلم تزل تلك الكلمات التي قالها لي بروفيسور جزائري أثناء تواجدي في الجزائر منذ عدة أسابيع، ثمة بلد مجاورة لكم، تحاول بناء المباني الضخمة، وتتباهى بها، ولكنها لن تبلغ بذلك العمق الحضاري والأصالة التي تتمتع بها بلادكم. كم كنت فخورة بما عرفه عن بلادي وما ينقله وهو واثق من صحته، ولكن ما لا يعلمه أن أبناء بلادي أصبحوا على استعداد للتفريط بأجزاء من تلك الحضارة ورموزها ومعالمها، لمصالح ربما في باطنها شخصية فئوية، مغلفة بظاهر مصلحة المنطقة العامة للتعمير والتطوير من أجل السياحة والرقي بها.

وكأنَّ الأرض ضاقتْ، فما بَقِي منها سوى مساحة سوق الحافة لبناء ذاك المشروع، وطالما أن هذا الوضع قد حُقق وانتهى، فإن الخوف من التمادي في مواضيع التضحية بموروثنا العمراني الحضاري، بحجة أنه قديم وهالك، وأنه لا يصلح للسكن، بدلا من أن نحافظ عليه ونعمل على صيانته، وإبراز مثل تلك القرى كمرحلة حضارية مضت، لها ميزتها ونمطها، تعطينا ذاك البعد الحضاري الذي يبقى مستمرا تتوارثه الأجيال التي ستأتي من بعدنا، لنفتخر دوما بما نملكه من حضارة عبر التاريخ، وأنَّ كل جيل قد استلمها من الجيل الذي يسبقه، ويحافظ عليها، ويقوم بدوره الصحيح تجاهها، ليسلِّم مقاليد رعايتها للجيل الذي يأتي من بعده، ليقوم بذات الدور.

هكذا تُصان الحضارة، وهكذا نكون شعبا أهلا بتلك الحضارة، جديرون بحمل أمانتها، والحفاظ على هويتنا، والتطوير بحدود ما يحافظ عليها، ويبرز معالمها. ويبقى السؤال قائما.. بعد سوق الحافة.. على ماذا سيأتي الدور؟!

zainabalgharibi@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك