العنف حين يصبح مألوفا وعاديا

رحاب أبو هوشر

ارتكاب شخص لجريمة، يجعل منه مجرمًا وفق أحكام القانون والمجتمع، والجريمة أيا كان نوعها ومسماها ما هي إلا تعبير عن عنف يمارس ضد آخر، سواء كان فردًا أو مجتمعًا. عنف مكثف يلحق الضرر والأذى. ولأنّ الجريمة تمثل خطورة وتهديدًا أمنيًا واجتماعيًا، واعتداء على الحقوق الخاصة والعامة، تقوم السلطة القضائية في أيّ دولة، بتقنين عقوبات ضد مرتكبيها، لضمان أمن وسلم المجتمع، وإصلاح أولئك المجرمين وإعادة تأهيلهم لعودة بناءة إلى المجتمع، إلا أنّ مؤسسات الدولة معنية أكثر بردع هذا العنف والحد منه، باجتثاث أسبابه، فالعنف والجريمة، أعراض اجتماعية لأمراض وأزمات أكثر عمقاً تضرب في عمق بنية الدولة ومؤسساتها.

بموازاة تزايد العنف في السنوات الأخيرة، واتساع مظاهره في مختلف المستويات، ارتفعت أيضًا معدلات الجريمة في المجتمع العربي، بسبب تدهور الأوضاع العامة، ولاسيما السياسية والاقتصادية، وفساد نخر الدولة ومؤسساتها، نتج عنه في معظم الحالات تعطيل للقانون، في بلدان لا تملك السلطة القضائية من استقلاليتها إلا ما يردده الإعلام الرسمي، أو عجز قوانين متخلفة لم تطرأ عليها تعديلات منذ وضعت قبل عقود، عن ممارسة دورها في ضمان الحقوق، وتحقيق العدالة القانونية والأمان الاجتماعي.

لكن شلل المؤسسة القضائية واحد من العوامل فقط، التي دفعت بالناس المجردين من نفوذ مراكز السلطة نحو العنف، وسيلة لاسترداد حقوقهم أو الدفاع عنها بأيديهم، طالما أن القوانين لا تنصفهم، وبذلك تراجعت مجتمعات إلى درك الغابة، ليسود علاقاتها قانون القوة البدائي بدلا من قوانين دولة المؤسسات الحديثة. تطور العنف لاحقا من رد فعل على غياب القانون، مع استمرارية الأوضاع وترديها، إلى سلوك تصادمي تمارسه كل الفئات، ولغة متواصلة، تترجم السخط والإحباط وفقدان التوازن، وانفراط منظومة القيم في المجتمع.

نتحدث هنا عن عنف صارخ وسائب في معظم البلدان العربية، تحرش واعتداء على الفتيات وخلافات عادية تحل باستخدام الأسلحة في الشوارع، ضرب وتعذيب أطفال وجرائم قتل في المنازل، ومعارك بين الطلبة في المؤسسات التعليمية، واعتداءات على الموظفين في أماكن العمل، ووسائل إعلام تحللت من مواثيق المهنية وضوابطها، يديرها تجار الكوارث والمرتبطون بمصالح فئوية، تساهم بهيمنة لغة العنف على المجتمع وتغذية أفكاره، وتقدم عنفا بلا أقنعة فيما تدعوه برامج حوار، بعضها أخذ على عاتقه مهمة التحريض الطائفي، وغيرها لا يجيد إلا كيل اتهامات اعتباطية لأشخاص بعينهم وتخوينهم وتهديدهم، وشتم آخرين والسخرية منهم. ورغم أن معظم هذا "الأداء" الإعلامي تنطبق عليه أركان الجريمة، إلا أنّه لا يخضع لتعريفها أو لعقوباتها، في بلدان لم يعد يحكمها سوى الفوضى والتآكل.

وبعيدًا عما يجري من أحداث في الوطن العربي، وأجندات الإعلام السياسية، أصبحت أخبار العنف وقصص الجريمة مادة أساسية للإعلام المفتوح، أرضًا وفضاءً. وهذا إن كان في وجه من وجوهه يعكس تردي الواقع الذي لا يمكن إنكاره، بل ضرورة الكشف عنه ومعالجته، إلا أنّ كثيرًا من ذلك الاهتمام لا يتجاوز الإثارة واستقطاب المشاهدين والقراء، لزيادة الأرباح، فكثير من القصص مفبرك ولا أساس له من الصحة، أو أن تكون حوادث محدودة يجري تضخيمها بالأكاذيب، دون اهتمام بشرط التقصي والمصداقية، أو بواجب مهني حقيقي تجاه مكاشفة المجتمع وحمايته من الجرائم، ليقع النّاس ضحية عنف يخترق شعورهم بالأمن، كما يخترق عقولهم، ويجعلهم أكثر مرونة وإقرارًا بالتعامل معه.

وأخطر ما في هذا المناخ العنيف نشوء حالة من الاعتياد، تفرز شعورا باللامبالاة تجاهه. كما هي الحال دائما، أصيب الناس بالصدمة قبل سنوات، عندما تعرضت فتاة في القاهرة، لتحرش مجموعة شبان في النهار أمام الناس جميعا، غضبوا غير مصدقين بأن هذا يحدث بينهم، وبعد تكرار تلك الحادثة، في أكثر من بلد عربي، خفتت أصوات الناس، وصاروا يتبادلون مقاطع اعتداءات التحرش للتسلية! أما مقاطع قطع الرؤوس والتنكيل فقد أصبحت روتينا لا يستوقف أحدا، لا تثير غضبا أو تخدش مشاعر إنسانية، وهناك من يبحث عنها ويشاهدها، كأن في الأمر لذة خفية! الأعراف الإعلامية الدولية، تمنع نشر مقاطع القتل وصور القتلى، احتراما لإنسانيتهم وإنسانية المشاهد، يعتبرونها متعارضة مع الحس الإنساني الرافض للعنف والدم، أما لدينا فقد خرج العنف بالاعتياد من فئة "الظواهر" الطارئة والخارجة على قيم المجتمع، أصبح مألوفا ويوميا عاديا، لا يسبب ألما أو قلقا، بما يعني أنه يدخل تدريجيا في صياغة النسيج الثقافي والذهني للناس، ويتسلل ليصبح لغة "مقبولة" في علاقات مجتمعات تتخبط في عتمة التناحر السياسي والطائفية والفقر والتخلف، وتعجز حتى اليوم عن بلورة لغة مواطنة جمعية إنسانية وعقلانية.

تعليق عبر الفيس بوك