بين الحقوق الفرديَّة والجماعيَّة في الاقتصاد الحر

عبدالله العليان

يتحدَّث البعضُ عن الاقتصاد الحُر في الغرب، وكيف أنه نجح نجاحا باهرا بعد إلغائه القيود والقوانين المقيِّدة للحراك الاقتصادي الحر, وأنَّ الحماية أو القيود سيجعلانا مخالفين للنظام الحر الذي هو من النظام المتبع في أغلب دول العالم، ويعتقدون أنَّ الناس تجهل ما تم في الغرب من تطورات في مجال الحماية الاجتماعية للأفراد، في ظلِّ قوانين تقف إلى جانب الفرد وتعطيه الكثير من الضمانات المادية حتى وهو لا يعمل (بريطانيا نموذجا)، وأنَّ الرأسمالية المتوحشة كما وُجدت في القرن التاسع عشر ليس لها وجود الآن في الغرب، وأنَّ النظم الغربية الليبرالية تقف مع الأفراد، وأن الأسعار ليست تضع هكذا دون حماية أو رقابة، وهذا يعني أن البعض يريدنا أن نعيش في القرون الماضية، ويرفع الشعار الذي رفعه الرأسماليون القدماء "دعه يعمل، دعه يمر" دون رقابة أو حماية للمستهلك! والاقتصاد الحر -كما نعرف- مذهبٌ رأسماليٌّ ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي، ولكن هذا المذهب اقترن بالثورة الصناعية وظهور صراع هذه الطبقة الجديدة مع القوى التقليدية؛ لذلك فإنَّ مطالب الليبراليين ارتبطت في بدايات ظهور هذا الفكر الجديد بالطبقات العليا في المجتمع الأوروبي، ثم اتَّسع هذا المفهوم بعد نضال طويل ولم يأت تلقائيًّا. وهي تلك الفترة التي شهدتْ التوسُّع الاستعماري وتكوين الإمبراطوريات، واستغلال شعوب المستعمرات من قبل الدول الرأسمالية الليبرالية.

لكنَّ مقولات المدرسة الليبرالية القديمة عن التوازن التلقائي أو الآلي؛ من خلال حرية التبادل والمبادرات الفردية والحرية الاقتصادية، غير المنضبطة وغير المقيدة لا تؤدي بشكل طبيعي وفق ما قالوه في شعارهم الشهير "دعه يعمل، دعه يمر"، بل أصبحت الدولة مضطرة لأن تتدخل، وأن تضع الإطار القانوني الذي يضمن تطبيق المبادرات الفردية، وتمنع الاحتكارات الكبرى. وأثبت الواقع أن الدولة لا يمكن أن تكتفي بدور الحكم فقط؛ إذ إنَّ تنامي النظام الرأسمالي، وحدَّة المطالب العمالية، ومقتضيات اقتصاد الحرب والإعمار...إلخ، حتَّمت على الدولة أن تتدخل، وأن تكون هي المحرك والمنظم لمجمل النظام الاقتصادي.

وهذا ما عبَّر عنه رائد المدرسة الكينزية "جون ماينرد كينز"، عندما قال: "ليس صحيحا من مبادئ الاقتصاد أنَّ المصلحة الشخصية تصب دائما في خانة المصلحة العامة"، وهو ما دعا بعض الدول الغربية إلى التخلي عن الليبرالية الكلاسيكية، بعد اشتداد الأزمات الاقتصادية أو ما يعرف بالكساد الكبير أو التضخم الذي عصف بالرأسمالية والأخذ بنظرية اللورد كينز، لإحداث التوازن عندما عجزت الليبرالية عن تحقيقه وضبطه.

ففي الولايات المتحدة -معقل الرأسمالية الليبرالية- قام الرئيس روزفلت بوضع "البرنامج الجديد" المعروف بـ(The New Deal)، الذي أدخل تنظيمات اقتصادية جديدة، وتضمَّن قيام الدولة بنشاطات اقتصادية مباشرة لإنعاش الاقتصاد الأمريكي المنكوب بأزمة التضخم والكساد، والتخلي عن بعض الأسس الليبرالية المنفتحة، والحد من حرية العمل والتجارة رغم بقائه على الملكية الخاصة والمبادرة الفردية...إلخ.

لكنَّ هذه الليبرالية المجددة -إذا جاز التعبير- واجهتْ المعارضة والسهام لإقصائها، في بداية السبعينيات والثمانينيات من هذا القرن من الليبراليين المحافظين، عندما برزت بعض المشكلات الاقتصادية مثل: عجز الموازنات الحكومية، وزيادة حجم الاقتراض، وانهيار نظام النقد الدولي، وزيادة أسعار النفط. وطالبوا بإعادة الاعتبار الليبرالية التقليدية بوصفها الدواء السحري، للنظام الرأسمالي الغربي. ولمواجهة ذلك كله -كما يرون- يتعيَّن العودة للأصولية الرأسمالية". وهذه العودة تحتاج إلى تغيرات أساسية في بنية وقواعد وآليات تشغيل النظام الرأسمالي. واقترح الليبراليون في هذا الخصوص جملة من السياسات الصارمة؛ مثل: تحجيم دور الدولة وإبعادها عن النشاط الاقتصادي، وأن تتخلَّى الحكومات عن هدف التوظف الكامل ودولة الرعاية الاجتماعية، وأنَّه لتحقيق الاستقرار الاقتصادي وعودة الدماء لتراكم رأس المال، يتعين التصدي بحزم لعجز الموازنة العامة للدولة من خلال إلغاء الدعم، وخفض المصروفات الحكومية الموجهة للخدمات الاجتماعية، وإلغاء إعانات البطالة، وزيادة أسعار الطاقة والضرائب غير المباشرة، ونقل ملكية المشروعات العامة إلى القطاع الخاص، وتحويل بعض الوظائف التقليدية للدولة تدريجيا للقطاع الخاص. كما طالب الليبراليون الجدد بخفض معدلات الضرائب على الدخول المرتفعة، وأرباح الشركات وعلى رؤوس الأموال حتى يمكن حفز الطبقة الرأسمالية، على زيادة الادخار والاستثمار والإنتاج. وانحصرت مطالب الليبراليين الجدد فيما يتعلق بدور الحكومة في أن تحمي حرية السوق من أية تدخلات، وأن تضع سياسة نقدية صارمة للتحكم في عرض النقود بما يتناسب وحاجة التداول. وعادوا مرة أخرى إلى مفاهيم الليبرالية الكلاسيكية في قضية التوظف الكامل من خلال المبادرة الفردية، وهي أنه إذا توافرت الحرية في المجال العملي لجميع الأفراد، فإنَّ الإنسان في المجتمع الحر يسعى إلى تحقيق مصالحه الخاصة، والتي تؤدي في النهاية إلى توفير المصالح العامة.

وتشاء الأقدار أن تسقط الأيديولوجية الماركسية بعد عقدين من الزمن على التحول الذي طرأ على الليبرالية التقليدية، وهلَّل نسور الرأسمالية يهتفون بالنصر المبين، وكان الأحرى بهؤلاء أن يتأملوا هذا السقوط ويدرسونه حق الدراسة، بعقلية النظرة الفاحصة الثاقبة، لا بنظرة التفوق والتعالي والمركزية الواحدية، وحسب تقدير العلامة هادي المدرسي، فإن "التاريخ ليس بلا ذاكرة، وأحداثه لا تستبطن صفحاته الصماء، وتموت بالتلاشي والتقادم، بل إنَّ فعلها يستمر يسري كتيار كهربائي في أفكار الناس وأحلامهم وتمنياتهم في اختراق المستحيل، وصولا إلى ما يليق بآدميتهم التي كرمهم الخالق ولم يصنها المخلق دائما كما "أنَّ الشيوعية لم تكن نبتا شيطانيا جاء به الجن من كوكب آخر، بل هي بعض نتاج النظام الرأسمالي ذاته الذي يقدم للعالم كله اليوم، وكأنه طريق الخلاص، بل الخلاص ذاته؛ فكلُّ نظام يخلق نقيضه، وإذا كان النظام الشيوعي الذي عاش ثلاثة أرباع القرن لم يقدم النقيض الأرقى، فلا يعني أبدا أن النظام الرأسمالي هو غاية المنى وذروة الطموح الإنساني، بدليل بسيط هو أن الإنسان في ظله ما زال يحلم بالتغيير وما زال يحاول التغيير سلما حيث ما أمكنه. ويرى المدرسي أنه إذا كان الصراع بين نظامين يفتقران إلى احترام إنسانية الإنسان على مستوى الكرة الأرضية قد أنهكا بشر القرن العشرين، فليس زوال أحدهما بشارة مطلقة؛ وذلك أنَّ عالما بلا عكازه أخرى سيكون عالما فاقدا للتوازن، إنه عالم مختل، إنه عالم السيد ومليارات العبيد السعداء بكونهم قد تخلصوا من الخطر المحتمل؛ ليموتوا في ظلِّ الخطر الداهم، الذي طالما ناضلوا ضده، إنه سيكون عالم اللون الواحد، وهو بالنتيجة عالم مستحيل؛ فالرأسمالية ليست هي الكمال، حتى يمكن فرضها قسرا على أمم وحضارات مختلفة الأفكار والاتجاهات والأيديولوجيات.

والإشكالية الأكبر -كما عبَّر عن ذلك ريتشارد نيكسون- أنَّ الأمريكيين يعتقدون أنهم مؤهلون لعيش حياة رغيدة، وأن هزيمة الاتحاد السوفيتي تعني أننا سنعتلي صهوة العالم غير آبهين لغيرنا. فأولئك الذين أطلق عليهم يوما لقب "المتعلمون" قد أصبحوا اليوم (متحجري العقول)، ومن كانوا يوما "الحليمون" قد باتوا اليوم "الوسواسيين"، وما كان بالأمس "اعتدالا " إذا بهم الآن "تزمتا"، والذي أسميناه يوما بـ"اللامسؤولية"، قد أمسى الآن "دع الأمور تجري في أعنتها"، والذي كنّيناه بـ"الانغماس الذاتي" بات اليوم "تحقيق الذات". لقد أزيلت القيود العرفية على السلوك الشخصي أو تم تخفيفها، ومع هذا لم تزل الفكرة الطاغية هي فكرة أن مشاكل الجريمة والمخدرات ووباء الفقر، هي ولادات "المجتمع"، أي أننا نضع اللوم على المجتمع في أخطائنا بدلا من محاسبة الذات؛ فإذا لم نُنجز مُهمتنا بإعادة تجديد أمريكا، فإنَّ هزيمة الشيوعية لن يتبعها انتصار الحرية بل تباطؤ ومن ثم انحلال متواصل نحو الفوضوية في العالم، ودور غير سوي للولايات المتحدة. على البعض أن يعي أن التحولات المستمرة في عالم، تتطوَّر مع المستجدات، وتضع القوانين، والنظم التي تقيم العدل، وتضع الحلول التي تلتقي مع تقدم المجتمعات، ورقيها، واستقرارها، البعض لم يعد كما كان جامدا، ونائما على المقولات والأفكار التي ظهرتْ عُيوبها، الأفكار الشيوعية، انهارت عندما قهرت الشعوب، وحاربت الأديان، وعاشت على الحزب الواحد، والرأسمالية المتوحشة، تراجعت عن ظلمها، وعن هيمنتها على الاقتصاد، يُديره أفراد قلائل، وبدأت النظم الغربية تغيِّر وتبدِّل النظم الليبرالية، بما يُحقق العدالة الاجتماعية، والذي أطال عُمر الرأسمالية وعدم سقوطها، هو الحريات والمجتمعات المدنية التي تطالب وتناضل مع التوازن بين الحقوق والواجبات.

تعليق عبر الفيس بوك