متطلبات نجاح المصالحة الوطنية

عبيدلي العبيدلي

تكرَّر بُروز تعبير "المصالحة الوطنية"، على مسرح العمل السياسي العربي كثيرا خلال العقود الخمسة الماضية، وتحديدًا منذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975، وكذلك بعد أحداث الصدامات السياسية التي عرفتها الجزائر في التسعينيات من القرن الماضي، والتي كان من نتائجها تقدم الرئيس الجزائري حينها عبد العزيز بوتفليقه بمشروع للمصالحة الوطنية انتهى بصدور المرسوم الرئاسي بإجراء استفتاء على المشروع في 14 أغسطس 2005، الذي حاز على موافقة نسبة عالية من أصوات المواطنين.

ولا تقتصر الدعوات للمصالحة الوطنية على المنطقة العربية وحدها؛ فلا تزال تمثل أمام أعين المراقب السياسي الحالة التشيلية إثر الانقلاب على نظام الرئيس اليساري الرئيس سلفادور أليندي في العام 1973، عندما شاعت إثرها الفوضى وانفرط عقد الأمن، وعانت البلاد من موجات عنف متلاحقة. ولم تستقر البلاد إلا بعد وصول الرئيس ادوار فراي إلى سدة الحكم، الذي بادر حينها بالدعوة الجادة إلى المصالحة الوطنية كمخرج للبلاد من أزمتها. وقد لبت الأحزاب السياسية التشيلية تلك الدعوة، وانخرطت جميعها في مسيرة المصالحة الوطنية، التي قادت إلى الاستقرار السياسي الذي نعمت به تشيلي حينها.

ومن هنا، ليستْ المصالحة الوطنية شعارا سياسيا أجوف تتبناه فئة سياسية دون غيرها، بقدر ما هي، كما تجمع عليه مصادر العلوم السياسية "نتيجة حتمية تمر بها كل دولة سبق لها أن عاشت خلافات أو نزاعات؛ سواء بينها وبين مواطنيها أو بين عناصر قادتها، ويكون فك النزاع أو الخلاف بإشراك جميع الفاعلين السياسيين مع إمكانية إزالة آثار نشوب النزاع أو الخلاف".

هذا ما يشير إليه أيضا الباحث العراقي في مركز الدراسات الإستراتيجية بجامعة كربلاء حسين أحمد التدريسي، الذي يرى أن المصالحة الوطنية "تعني السعي المشترك نحو إلغاء عوائق الماضي وآلية استمرارها السياسية والتشريعية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتصحيح ما ترتبت عنها من غبن ومآسٍ وأخطاء وانتهاكات وجرائم جسيمة وتخلي الجميع عن الحلول العنيفة في معالجة الملفات والقضايا المختلف حولها، والنظر بتفاؤل إلى المستقبل. (ومن ثم فهي) مجموعة من الأساليب التي يُمكن للدول استخدامها لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان السابقة، وتشتمل على توجهات قضائية وغير قضائية على حد سواء.

وشأنها شأن المبادرات التي يراد لها إعادة رسم المشهد السياسي الذي ينظم العلاقات بين القوى المتخاصمة التي باتت بحاجة إلى معادلة التعايش بسلام واستقرار فوق خشبة مسرح ذلك المشهد، يتطلب مشروع أية مصالحة وطنية مجموعة من العناصر التي تؤمن له مقومات النجاح أولا، والاستمرارية ثانيا، يمكن حصر الأهم بينها في النقاط التالية:

1- شعور جميع الأطراف المنخرطة في العملية السياسية بمرور البلاد بأزمة، تعكر أجواء أمنها السياسي، وتهدد مكونات استقرارها الاجتماعي، وتخرب مشاريع وخطط تقدمها الاقتصادي. وتيقن الجميع باستحالة قدرة طرف على الانفراد وحده بحل مثل تلك الأزمة دون سائر الأطراف الأخرى؛ الأمر الذي يقود إلى اقتناع الأطراف كافة بحاجتها لبعضها البعض كي يتمكن قارب نجاة المصالحة الوطنية من الإبحار بسلام. هذا يقتضي من جميع الأطراف التحلي بروح الوطنية السمحة، فتجري التعديلات المطلوبة على برامجها السياسية، وهذا يشمل أيضا البرنامج السياسي للحزب الحاكم، وتعيد النظر في ممارساتها السابقة التي قادت إلى الاحتقانات التي ولدت الأزمة، وتمد جسور التفاهم مع بعضها البعض من أجل تخفيف حدة التوترات تمهيدا للبدء في مشوار المصالحة الوطنية، الذي لا يمكن أن يحقق أهدافه ما لم تغادر القوى المتصارعة خنادقها التي تمترست فيها، وكانت السبب وراء إشعال نيران الأزمة.

2- توقف جميع تلك الأطراف عن ممارسة دور المنتصر، وإرغام الآخرين، أو البعض منهم إلى القبول بحالة الانهزام، والرضوخ المطلق لشروط ذلك "المنتصر". فعندما تشيع حالة "المنتصر" و"المنهزم" هذه، ربما تنعم البلاد بشيء من الاستقرار، لكنه استقرار مؤقت، وفي أحيان كثيرة مزيف. لا يلبث أن يتراجع، وتسقط أقنعته، وتعود البلاد إلى سابق عهدها، كي تغرق في أزمة جديدة، تكون في أحيان كثيرة أشد من سابقتها.

3- مشاركة جميع الأطراف، بغض النظر عن حجمها السياسي، أو حضورها الاقتصادي، أو مكانتها الاجتماعية في أي مشروع يهدف إلى المصالحة الوطنية. فمشاركة جميع قوى المجتمع، المنظمة وغير المنظمة، يكون أحد صمامات الأمان الرئيسة التي تضمن تفعيل بنود مشروع المصالحة الوطنية، وتوفر شروط الحماية المجتمعية له، وتحول دون انحرافه، أو التلكؤ في تنفيذ ما جاء فيه، وما يدعو إليه، من أجل ترميم الصدع الاجتماعي/السياسي الذي أوجدته تلك الأزمة التي يفترض أن يأتي مشروع المصالحة الوطنية كي يضع حدا لها. ولا ينبغي هنا الاستخفاف بالدور الإيجابي الذي يمكن أن تمارسه منظمات المجتمع المدني، وخاصة تلك التي تتمتع بالاستقلالية المهنية المطلوبة القادرة على أن تفصل بينها وبين العمل السياسي المباشر.

4- تحاشي، بل ربما رفض، تدخل أطراف دولية، بما فيها تلك التي تمثل الأمم المتحدة أو إحدى المنظمات المنبثقة عنها، دون أن يعني ذلك عدم الاستعانة ببعض أطراف الخارجية الصديقة التي تتمتع بثقة القوى السياسية الباحثة عن "المصالحة الوطنية" كافة. فقد أثبتت التجارب، خاصة في المنطقة العربية، أن زج تلك القوى الخارجية وخاصة الأمم المتحدة، بأنفها في شؤون الدولة الباحثة عن مشروع للمصالحة الوطنية، غالبا ما يزيد الأمور تعقيدا، كونه يفتح الأبواب أمام تسلل قوى خارجية لها مصالح، ولها أطماع، تتضارب مع نجاح مساعي المصالحة الوطنية.

... كلمة لا بد منها في هذا المجال، ينبغي ألا يتوهم البعض، أن طريق المصالحة الوطنية، حتى في حال توفر مثل تلك المتطلبات، سيكون سهلا ومفروشا بالزهور. بل هو على العكس من ذلك، طريق صعبة ووعرة، ومحفوفة بالمخاطر. لكنها تبقى وحدها الطريق الكفيلة بانتشال أي مجتمع من أزمته الخانقة التي تمسك بتلابيبه.

تعليق عبر الفيس بوك