نقد الحال الرّاهن (8) الانفتاح

د. صالح الفهدي

تتأرجح مجتمعات المسلمين في مفهومها للانفتاح بين إقدام مفرط على حساب قيم الأمّة وهويتها، وبين إحجام وانغلاق مبالغ على حساب التقدّم، والعصرنة، والتثاقف. الأغلب الملاحظ تعاطى مع الانفتاح سلبا فأخذ قشوره وترك لبابه..! تلبّس أرديته، وترك روحه..! فلم ينل منه سوى التقليد للآخر في كلّ شيء: مشيته، ولغته، ولبسه، وقصّة شعره، وأغانيه، وطعامه، ورقصاته، وفنونه، بل وحتى تقمّص مشاعره، وأحاسيسه، وتفكيره، وفرحه، وأحزانه..! فكأنّ لسان حاله وهو ينظر للناس يقول: أنا عصري، أنا متحضّر، أنا تقدّمي وأنتم المتأخرون، المتحجّرون..! وهو في الحقيقة ما أصاب انفتاحا إنّما أصاب انحرافا..!

وفي هذا يقول جبران خليل جبران:"كان الغربيون في الماضي يتناولون ما نطبخه فيمضغونه محوّلين الصالح منه إلى كيانهم الغربي. أمّا الشرقيون في الوقت الحاضر فيتناولون ما يطبخه الغربيون ويبتلعونه، ولكنّه لا يتحول إلى كيانهم بل يحولهم إلى شبه غربيين، وهي حالة تبين لي الشرق تارة كعجوز فقد أضراسه وطورا كطفل بدون أضراس".

فهم الكثيرون الانفتاح على الآخر بغير المقصد الذي أريد له ففتحوا أوطانهم مشرعة للأجنبي كي يمارس فيها حياته كما يهوى..! رفعوا عليه الحواجز، وتركوا له المجال مفتوحا كي ينعم بالشعور والاطمئنان في أنّه ليس في بلد ثانية بل في بلد أعلى سقفا للحريّة من بلده..! فإذا به يفعل الأفاعيل، ويهتك كل القيم الأصيلة التي نشأت عليها المجتمعات الإسلامية، ويضرب بها في عرض الحائط..! استفاقت بعض الدول على ما تحسبه التمادي من قبل الآخر وهو في الأصل مساحة "الانفتاح" التي منحتها له تهاونا وتراخيا وإرضاء، فإذا بها تنفض الغبار عن قوانينها، فتعود إليها خوف أن تنزلق في طريق لا تستطيع العودة منه ثانية..!

يصل الأجنبي بلدان المسلمين فلا شيء يرشده إلى ملامح ثقافة ذلك البلد، وكأنّما هي أوطان فتحت أشرعتها وأحضانها للأجنبي دون شرط أو قيد.. تساعده قراءاته البسيطة عن البلد قبل أن يصل إليها، فيسكن في نفسه وهو قادم بعض الاحترام لثقافة البلد، فإذا جاءها ووجد قيمها حيّة، أكّد احترامه لها، وإن وجدها "منفتحة" على الآخر دون حدود "رفع الكلفة" ومارس حياته الطبيعية كما يجب أن تكون..!

يخبرني رجل أعمال سافر إلى الغرب، ودعي إلى عشاء عمل، فأبلغهم بأنّه لا يتناول لحم الخنزير، ولا يشرب الخمر، فلّما حضر المأدبة وجدها وقد خلت مما اشترط ليس له وحده وحسب بل وللجميع الذين احترموا تقاليده، وقيمه..!

لهذا فالآخر يحترم القيم الأصيلة للأمّة طالما احترمتها هي، وقدّرتها وجعلت لها منزلة ومقاما، فإن تنازلت عنها، وإن تهاونت فيها، فإنه سيضمر للأمّة عدم الاحترام..!

الانفتاح في حقيقته ليس صورا سلبيّة وإنّما ضرورة حضارية مستمدة من الأمر الإلهي:( يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)[1] فهو الانفتاح الحضاري على الثقافات، والتلاقح الفكري مع الأمم، وليس تقليدها في ملبوسها، ولغتها وطريقة مشيها، وتقليعاتها، وصرعاتها..!. فهذا تطبيق حرفيّ لما عناه ابن منظور في اللغة وهو "كل ما انكشف عن شيء فقد انفتح. وضده الانغلاق"..!

وفي الجانب الآخر.. الجانب العقلي إذا بقوم يناودون بالانفتاح الفكري على الآخر في كلّ شيء أيضا دون شرط أو قيد، بحجّة أنّ فكر الآخر المتقدّم هو فكر متحرّر غير مقيّد بقيم أو تقاليد أو حتى عقيدة..! وهؤلاء شطحوا في مناداتهم فأصبحوا ينعتون من يتطرّق في الدّين بأنّه صاحب خطاب وعظي منبري..! ومن يتحدّث عن الأخلاق الرفيعة بأنه متحجّر، متأخر عن عصره..! ومن يسعى لإصلاح المجتمع والحفاظ على هويّته الوطنية بأنّه مثالي بل ووطني متشدد..!!

وإذا كنّا نسلّم جدلا بوجود مصطلح "الانفتاح" ونتعامل معه بحسن نيّة متجاهلين جذوره التاريخية التي تربط منشأه بالصراعات بين الكنيسة الداعية إلى رفض كل الأفكار العلمية الجديدة، والفكر اللاديني المنفتح على كل جديد، أقول إذا أخذنا هذا المصطلح بهذه النيّة وصوّبنا دلالته لتعني: الانفتاح فكريا على الآخر، وقبول أفكاره، والتسامح معه، فإننا نلتفت إلى مشكلة تعانيها مجتمعاتنا ولم تتحرّر منها بعد، وهي أنّ مجتمعاتنا ضعيفة في ثقافة الانفتاح الداخلي بين مكوّناتها الاجتماعية إن لم نقل تفتقر إليها فكيف بها تتجاوزها إلى الانفتاح على الآخر خارج الحدود الوطنية..! الأوّل أوجب الحدوث، والثاني يأتي نتيجة له؛ بمعنى أنّه لا يمكن لمجتمعات تعاني من انغلاق يجعلها تعيش في "سرادق فكريّة ثقافية مذهبية" لا تنفتح في دواخلها مع الآخر الذي تتعايش معه واقعيا، في حيّز أوطان واحدة أن تنفتح ثقافيا، وتتسامح فكريا نحو المجتمعات والثقافات الأخرى؟!

وما يمارسه البعض من "انفتاح" هو استغواء النفس وممارسة استجهالها..! فهو يتسامح مع الفكر الأجنبي، ويحارب فكره..! ينفتح على تاريخ الآخرين وينغلق على تاريخ بلده..! يبالغ في انبهاره بثقافات الغير ويحتقر ثقافته..! ينبهر بإبداعات الآخرين ويسفّه مبدعي وطنه..! يعتزّ بثقافته "الكونية" ويثور على هويته..!

إذن فالانفتاح - كمصطلح مستقل- يجب أن يفعّل داخليا، لأنّ المجتمعات التي افتقدت إلى احترام التعددية، والتسامح، واختلاف المشارب، والمذاهب تحاربت، وتصارعت وخرّبت أوطانها..! أمّا تلك التي انفتحت داخليا، فقبلت التعايش السلمي مع التعددية، والاختلاف نالت السلم والاستقرار والأمن.

إنّ اليابان وهي مضرب مثل في هذا المعرض قد تقدّمت صناعيا وتقنيا واقتصاديا لكنّها في المقابل لم تضحّ بقيمها الأصيلة التي نشأت عليها، والتي جعلتها ركائز لنهضتها، وتقدّمها، ووحدتها، وهكذا كان المسلمون في أوائل نهضتهم، انفتحوا ثقافيا مع الأمم الأخرى ليستلهموا من علومها، وفلسفاتها، وأفكارها ما يساعدهم على "صنع حضارة" لديها من القيم القويمة ما يجعل بنيانها سميكا، قويما، فأثّروا في الحضارات، وكان لهم في عالم اليوم المتقدم جذور الفضل يتباهى بها أحفادهم في مناظراتهم وافتخارهم بتلك الإنجازات الحضارية.

نخلص من هذا إلى القول بأنّ مجتمعاتنا المسلمة تحتاج إلى الإنفتاح الداخلي بين سائر مكوناتها وإلغاء كل "السرادق" الطائفية أو المذهبية أو الفكرية وإعلاء شأن المواطنة المسؤولة، الصالحة التي تعلن الولاء للوطن، والانتماء الصادق له. الأمر الآخر: أن الانفتاح نحو الآخر لا يعني تقليده في ظاهر هيئته، وسلوكه، وتبذّله، وسقطاته..! بل في الاطلاع على ما عنده من علوم متقدّمة، والاستفادة مما لديه من أفكار خلاّقة تدفع المعاش البشري إلى النماء والازدهار، وترفع المقام الإنساني إلى درجات عالية من السموّ والرّفعة. الأمر الثالث: أن الانفتاح على الآخر لا يعني التضحية بقيم المجتمع، وأعرافه وتقاليده، وأسس مكوّنات هويته وخصوصيته وتركه يعبث بها كما شاء، بل وضعها في المقام الأرفع، وتقديرها لأنها تتعلّق بالمصير الوجودي للهوية الوطنية والقومية. فلا تستحقّ أمّة الاحترام إن هي ضحّت بقيمها وأسس هويتها في مقابل ما تحسبه علوا من شأنها لدى المجتمعات الأخرى وهو في الحقيقة تضعضع وانفلات وهوان..!



[1]الحجرات/13.

تعليق عبر الفيس بوك