نقد الحال الراهن (7) العنف

د. صالح الفهدي

المناظرة التي جرت في مجلس اتحاد (أوكسفورد) بجامعة أكسفورد البريطانية، يوم 23/5/2013 عقب يوم من حادثة مدينة (ووليتش) في (لندن)، حيث قُتل جندي بريطاني على يد رجلين مسلمين، كان عنوانها عبارة عن فرضية أنّ "المجلس يؤمن بأنّ الإسلام دين سلمي "وشارك فيها ستة مناظرين مع وضد الفرضية، وكان التصويت لصالح هذه الفرضية بنسبة كبيرة؛ أي أنّ الحضور صوتوا بـ"نعم" لصالح أن الإسلام دينُ سلام وليس دينُ عنف.

وما كان هذا ليحدث لولا حنكة المناظرين المسلمين وقدرتهم على فصل أفعال العنف التي قام بها من يزعمون انتماءهم للإسلام وبين تعاليم الإسلام التي تحاربُ العنفَ، وتدعو إلى السلامِ إلاّ في حالةِ الظّلم والاعتداء بشرطِ العدلِ أيضاً.

لكن تظل لثقافة العنفِ عند فئة من المسلمين - وهي قليلة جداً بالمعنى الظاهري للعنف- جذورها الداخلية، وأسبابها الخارجية وهذه وتلك قد أسهمت مجتمعة في نشأة هذه الثقافة التي انحرفت بالعقولِ عن جوهر الإسلامِ، وأظهرت للآخرين وكأن الإسلامَ هو الذي يحرّضُ أتباعه على العنفِ، حتى أنّ بعض المؤسسات التعليمية في الدول الإسلاميّة قد حذفت من مناهجها آياتٍ قرآنية حُسبت على أنّها تحث على العنف وكان الأجدر أن يعاد تأويل الآيات فلا القرآن الكريم ولا السنة النبوية يحثّان على العنفِ لأنّ الإسلامَ هو دينُ السلامِ وإنّما هي التفاسير التي قد توضع حسب الأهواءِ والأهداف في الأجندات السياسية أو المخابراتية.

قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلّا بِالْحَقِّ {الإسراء:33}. وقال: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (النساء: 93). الإشكاليّات الداخليّة لظاهرة العنف تبدأ من تصوير بعض المسلمين ممن يتّسمون بالعلماء أو الوعاظ أو غيرهم بأنّ الإسلام دين التجهّم والتزمّت والتشدد فيندرُ أن تفتر وجوههم عن الابتسامة كأنّها محرّمةٌ عليهم بينما اعتبرها النبي الكريم عليه السلام عبادة "تبسمك في وجه أخيك صدقة"..! ثم التزمّت في التديّن والتشدّد فيه وأخذ كل أمرٍ فيه شدّة وترك الأمور التي بها رخصة أو تيسير، وفي الحديث الشريف"إنّ خير دينكم أيسره، إنّ خير دينكم أيسره"[1] و"إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تُبَغِّض إلى نفسك عبادة الله؛ فإن المُنْبَتَّ لا سفرًا قطع، ولا ظهرًا أبقى"[2].

هؤلاءِ عطفوا بفهوم الإسلام منعطف التشدّد فيه فقلبوا تعاليمه رأساً على عقب، وقدّموا المختلف فيه على القطعي الدلالة، يقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه "السنة النبوية بين أهل الحديث وأهل الفقه":" لقد نجح بعض الفتيان في قلب شجرة التعاليم الإسلاميّة فجعلوا الفروع الخفيفة جذوعها أو جذورًا، وجعلوا الأصول المهمة أوراقًا تتساقط مع الرياح!" وقال "ما أيسر الإسلام وأيسر أركانه، وما أصدق عقائده وشرائعه، لولا ما أضافه أتباعه من عند أنفسهم، واشترطوا على الناس أن يأخذوا به ويدخلوا فيه.."

يقول أحدهم وقد أدّى مناسك العمرة بعد أن أخبرت أحدهم بذلك سألني لِم لم تحلل العمرة بحلق الرأس، يقول فأجبته: أنني قصّرت، فقرأ الآية الكريمة:" لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا"(الفتح: 27)، فرددت عليه: إذن فالتقصير جائز، قال: لكن الحلقَ أوجب..!

وظاهرةُ العنف كما تعودُ إلى الانحراف الفكري لبعض الجماعات كذلك تعود إلى الاستبداد السياسي للأنظمة التي تضيّق الخناقَ على الحريات، ولا تقيم الوزن بالقسطِ، ولا تشرّع مبدأ المساواة، ولا تفعّل مبدأ الشورى، ولا تشرك في القرار. أنظمةٌ لا يهمّها إلا ترسيخ مكانتها بالإخضاع والإذعان أيّاً كانت الوسيلة حتى لو كانت بالقتل والتدمير والتخريب، والأمثلة واضحة للعيان في عصرنا الحالي حيث تتهاوى هذه الديكتاتوريات التي سببت العنف لعدم معالجتها أسبابها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية.

وظاهرة العنف تعود إلى ممارسة القوى العظمى في العالم الكيل بمكالين، والسياسة المتحيّزة، وإشاعة الفتن، والشقاق والفرقة بين أبناء الإسلام، وهذا أمرٌ بات معلوماً. لكن ما يهمّنا هو استدراك الأسباب الداخلية التي تخلق ظاهرة العنف أكان من قبيلِ تطويع النصوص والأحاديث لصالح هذه الثقافة العنيفة أو الاستبداد السياسي للأنظمة الحاكمة.

المشكلةُ أنّ في كل مذهبٍ من مذاهب الإسلام غُلاةٌ متشددون أساؤا إلى الإسلام، لهم مغازيهم التي يريدون تحقيقها بعيداً عن الدين لكنّهم اتخذوا الدّين أداةَ تطويع وإيهامٍ للأتباعِ، فشوّهوا صورته عند ما لا يعلمون عنه شيئاً، أو حتى عند أتباعه. يخبرني أحد الناس أنّ بعض الشباب الذين كانوا يتبعون هؤلاء المتشددين ارتدوا عن الدين بل ألحدوا لأنّهم رأوا أنّهم كانوا مجرّد أدواتٍ للوصول إلى السلطة. وفي هذا النطاق يقول عربي: نريدُ من علمائنا أن يوصلونا إلى الجنة ويريدون منّا أن نوصلهم إلى كراسي السلطة..! وحتى حين تقرأ لهؤلاء المشحينون وهم يتبادلون اللغة العنيفة فإنكَ تكاد تغمض عينيك أسفاً على تلك اللغة التي تسيلُ دماً..!! ولو أنّ كلّ مذهبٍ من مذاهب الإسلامِ تخلّص من ثقافة العنف التي توغر قلوب المسلمين بالبغضاء والشحناء لما ظهرت القاعدة وداعش وفرق الموت وغيرها من الجماعات التي هي أرحم لأجنبي يقع بين أياديها من مسلمٍ أسير..!! وقد شاهدنا درجة العنف التي قتل بها مسلمٌ أسيرا..! وشاهدنا كيف يكون القتال والاعتداء بخلاف ما أمر الله به في قوله سبحانه: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين"[3] يقول المفسرون: أي لا تقتلوا النساء ولا الصِّبيان ولا الرهبان ولا الشيخ الكبير وَلا منْ ألقى إليكم السَّلَمَ وكفَّ يَده، فإن فَعلتم هذا فقد اعتديتم..! وكل هؤلاءِ يزعمون أنهم ينتمون للإسلام وأنّ ما يفعلونه باسم الدين، شاهت وجوههم كما شوّهوا الدين.

الدين الذي يقول رسوله الكريم عليه السلام: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته"[4]. ولنترك الآن الموغرين الخارجيين للمسلمين ومن القوى العظمى، لننظر إلى صور العنف التي يتفنن فيها من يدّعي فهم الإسلام وتطويع النصوص بحسب ساديّته وأهوائه فنجدها قد بلغت مبلغاً شنيعاً يخرجها ليس من الإسلامِ فحسب بل ومن الإنسانية ليصورها وحوشاً تفتكُ بالفرائسِ في الغابات بلا رحمةٍ ولا ضمير ولا إنسانية.

يتابعُ الواحد منّا الحوارات والمناظرات بين مسلمين سرعان ما تسودها لغة العنف وهي ترمي ألفاظ السباب والتراشق بالإتهامات ثم تتعداها إلى العراك الجسدي..! ونرى في الواقع كيف تضيق الصدور لموقف بسيطٍ في شارعٍ، أو لخطأ في سوق، ثم ما يلبث أن يتحوّل إلى عنف لفظي أو شخصي، وهذا الكلام عمومي في المجتمعات الإسلاميّة لا يتقصّد مجتمعاً بعينه، إنّما الشاهدُ هنا هو أنّ ثقافة العنف تتلوّن وتتفاوت في درجاتها ولهذا فهي بحاجة إلى تقصٍ عميق لأسبابها وكيف معالجتها من الجذور.

إننا يجب أن نربي أبناءنا على رحمة الديّن، ويسر التعاليم الإسلاميّة، وعلى رفق الإيغالِ في الدين، وعلى التسامح والعفو والصفح والعدل في طلبِ الحق فهذه القيم هي التي نضدت عقدَ السلامِ في دين السلام ونبذت ثقافة العنف.



[1]حديث شريف، مسند أحمد

[2]السنن الكبرى والبيهقي

[3]البقرة/190

[4]أخرجه البخاري.

تعليق عبر الفيس بوك