سفر التكوين العماني

أحمد الرحبي

إنّ أغلب الزوار من السياح والضيوف الذين يزورون السلطنة بعد أن أتيحت لهم الفرصة للتنقل في أرجاء البلاد، سرعان ما تثير دهشتهم روعة التفاصيل التي يتشكل منها المكان العماني بجباله الشاهقة وأوديته الخصبة وصحاريه وشواطئه الجميلة، دهشة أغرت الكثير من الزوار الأجانب خاصة، بالتعمق في سبر مكامن هذه الدهشة والسحر في الأرض العمانية، وذلك من خلال القيام بدراسات علمية متخصصة ومتعمقة عن جيولوجية المكان وبيئته الحيوانية والنباتية، ودراسة الطبيعة بشكل عام في عمان وهؤلاء أغلبهم من المهتمين بالدراسات العلمية الجيولوجية والجغرافية والبيئية، وقد جاءت خلاصة إحدى هذه الدراسات المنفذة والتي استغرقت سنوات طويلة على شكل كتاب، هو تراث عمان الجيولوجي الذي صدر في 1990 كما صدر في طبعة ثانية في 2006 وهي نسخة منقحة لهذا الكتاب القيم الذي يحظى بتقدير على نطاق واسع، والذي جاء نتاج جهد كبير ومضني من الدراسات الميدانية التي شملت السلطنة بطولها وعرضها، في محاولة جادة لتأرخة الظواهر الجيولوجية الهائلة التي شكلت أرض عمان الحالية والتي حدثت على مدى الملايين من السنين، صدر عن شركة تنمية نفط عمان.

فمنذ نحو 80 مليون سنة خلت بدأت العوامل الأرضية والعناصر الطبيعية تعمل عملها لتشكل الأرض التي نعرفها اليوم باسم سلطنة عمان، فبين دفتي الكتاب يتم سرد الحكاية السحيقة لتلك الولادة البطيئة والطويلة المخاض، لعمان الجيولوجية من خلال الدراسة العلمية المصورة والشرح الشيق الذي يخاطب بإمتاع القارئ دون أن يداخله السأم.

إنّه سفر التكوين العماني إذا جازت العبارة يأخذك عبر صفحاته في ارتحال بعيد، بعيد جدا في غياهب الزمن السحيق لتشكل الأرض العمانية. فهو يحاول بأن يجزم بدقة علمية ميلاد الأرض العمانية برغم مدى التناقض بين الجزم والدقة، فهو يشكل جهدا علميا مثابرا لإصدار شهادة ميلاد بأثر رجعي للأرض العمانية بجبالها وصحاريها وسهولها وشواطئها، مجرد تصفح الكتاب يجعلك تقبل على قراءته بفرح طفولي غامر، وكأنه سرد لحكاية خرافية موغلة في القدم أبطالها ما زالوا موجودين بيننا مشكلين أبرز معالم المكان الذي نعيش فيه، فنلاحظ مدى السحر والدهشة التي تفيض بها مادة تاريخ عمان الجيولوجي حين يجري وضع سيناريو جيولوجي محكم التفاصيل حول ولادة سلسلة جبال الحجر مثلا، التي تمثل العمود الفقري لعمان، والتي ربما تحولت حسب الكتاب إلى سلسلة عالية فقط خلال الأربع ـ ست ملايين سنة الأخيرة (أو ربما أقل) وذلك نتيجة لآخر مرحلة من حركة الكتلة الأرضية التي أثرت على عمان، فمقارنة بظروف النشأة والولادة مع شقيقتها جبال ظفار، يجزم الكتاب بأنّ جبال الحجر شهدت مرحلة تطور أطول وأكثر تعقيدا فيعود تاريخ تكونها إلى ما قبل 300 مليون سنة، فيما جبال ظفار بدأت قبل 30 مليون سنة فقط.

في الحقيقة يقارن هذا الكتاب بالنسبة لمستوى العمق والمادة العلمية المقدمة عن عمان بالكتاب القيم للجوّاب (الرحالة) العظيم ويلفد ثيسجر.. الرمال العربية.. الذي يفتتن بأم السميم ويقف على حافتها متأملا في رهبة، تلك السبخة الملحية الهائلة التي تعتبر مركز التصريف الرئيسي لأودية الجبل الأخضر والتي تغطي عدة آلاف من الكيلومترات المربعة على حافة الربع الخالي، حيث يوصف تراث عمان الجيولوجي هذه السبخة بأنّها قبل حوالي 6 آلاف سنة ربما لم تكن أم السميم أكثر من بركة مالحة، ولكن الطقس الجاف المتزايد منذئذ تسبب في حدوث الجفاف وإيجاد قشرة من الملح تكونت جزئيا من مياه الأودية المتدفقة، والتي تنحدر بمياهها الغزيرة في مواسم الأمطار من على سفوح الجبل الأخضر.

تعليق عبر الفيس بوك