الحدال

عائشة البلوشية

ولمن ﻻ يعرف "الحدال" فهي ثمار المانجو الغضة غير الناضجة، والحدال يرتبط معنا منذ طفولتنا بطعمه اللاذع، الذي يشكل قمّة الاستمتاع الطفولي البريء، وكلما ذكر الحدال تذكرت زياراتي لمدينة مسقط في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات في القرن الماضي، عندما كانت زيارة مسقط تشكل لنا نقلة حضارية بين عبري وبواديها وسيوحها، وبين حاضرة مسقط وبحرها الأزرق الممتد، حيث كان الشيخ الوالد - رزقني الله بره- يصطحبنا للتجوال عبر شوارع مسقط، وخاصة عندما يأخذنا إلى سداب والبستان ويتوقف بنا عند مجموعات الأطفال الذين يبيعون زهور الياسمين المحفوظة في أوراق البيذام والتي تمّت خياطتها من الأطراف بعناية بخوص النخيل، كم كنت أعشق تلك المحفظة الخضراء التي تفوح بالرائحة الزكية ما إن يتم فتحها...
أخذت جدتي الغالية- أطال الله في عمرها- في زيارة إلى منزلنا القديم في النخل في العراقي، فقد طلبت مني إيصالها لرؤية العمال لتوجيه بعض التعليمات التي تختص بتنبيت النخل والفلج، وكأنها أحست بشوقي للمنزل الذي ترعرت فيه، وعندما وصلنا قلت لها سآخذ جولة في الضواحي المحيطة حتى تنتهي مع العمال، وهالني ما رأيت بعدما انهمرت عليّ الذكريات الجميلة، ونظرت بعين مغرورقة بالدموع إلى شجرة الأمبا التي كنا نختلس ثمارها الغضة "الحدال" أنا وشقيقتي علياء، فقد هرمت الشجرة وعمل فيها العطش وقلة ماء الفلج عوامل الهدم، فقد كانت كالدوحة العظيمة التي تتكئ بكبار على سطح مطبخ المنزل، وكانت رفيقتنا التي نعتلي أغصانها ونحمل الملح والسكين والفلفل معنا لنفترش السطح بعيدا عن أنظار الجدة الحبيبة، ونستمتع بالثمار التي ﻻ يصل إليها النظر، وﻻ أبالغ إن قلت أنّ الشجرة تنوء راقدة بحملها الثقيل على ذلك السطح، وكأنّها تنفحنا بعطيّتنا الخاصة لنسلم من وقع الخيزرانة، والأجمل أنّ الكرم يحملنا لنقدم الدعوة لرفيقات الطفولة للمشاركة في هذه المأدبة الثمينة، فثمرة الأمبا الواحدة يترواح سعرها بين الخمسين والمائة بيسة حينها، في السوق "السوداء" للطلاب في المدرسة..
أقول إنّها سوق سوداء ﻷنّ تلك الثمار البريئة كانت ممنوعة أو بالأصح محظورة التداول داخل سور المدرسة، وأحيانا يرتفع سعر الثمرة عندما يرتفع الطلب مقابل العرض ليصل إلى ثلاثمائة بيسة، وحتى الآن ﻻ أعرف سبب الحظر، سوى التحجج بأنّ السائل الذي يخرج من الثمرة أثناء قطفها يسبب ظهور حبوب حول الفم!!!، وأنّ انشغالنا يجب أن يكون بالدراسة فقط، ولكنني أظن بأنّ تلك الرائحة تثير حفيظة المعلمات، فلا هن يستطعن طلب الشراء، وﻻ هن يجدنها، ولكنّها عموما تجارة رابحة جدا، لذلك نجد عمليات غزو الأمبا (خراب الأمبا) تزدهر وبشدة في هذا الموسم، كما تكثر معها جلسات العقاب العلني والشخصي في ذات الموسم؛ ﻷنّ اكتشاف مبلغ من المال يودي بك إلى جلسات تحقيق مؤلمة حتى تعترف بالأمر، ومن أين أتيت بالحدال، وسواء قطفته من أمباة البيت أو (خربت) أمباة الجار، فلن تسلم من عركة طاحنة بالعصا في كلا الحالتين...
وليس بخاف على كل من زار بلدان الشرق الأقصى تلك الطريقة التي يعرضون فيها ثمار المانجو الغضة، والمقطعة في حاوية بلاستيكية مع شوكة "خلة" طويلة يستخدمها المشتري لالتقاط الفصوص وأكلها، وتجد السياح يتهافتون على شرائها والاستمتاع بذلك الطعم اللاذع، وبسبب طعم الحدال اللاذع فقد أبدعت أمهاتنا في استخدامه في الأكلات الشعبيّة كصالونة (مرقة) السمك، وخلطة "الخلال" وغيرها من الأكلات الشعبية اللذيذة، كما أنّه في الآونة الأخيرة هناك من العمانيات اللائي انتبهن لإقبال الكثيرين على مخللات هذه الثمرة، فاتخذنها مهنة وأبدعن فيها، ومنهن من وجدت مجاﻻت للإبداع على هيئة صناعات بسيطة تدخل فيها ثمار الحدال لتدر دخلا لا بأس به، فاتخذتها خط تجارة وأصبح لها اسمها المعروف..
ظننا أنّ ذلك الزمان ولّى وانطوى على ما حوى من لذة الحصول على الحدال تعقبه وجبة ضرب بالخيزرانة أو الخضرية، ولكن نجد أنّ أبناءنا يتهافتون على الحدال ويقبلون على شرائه وأكله أكثر من إقبالهم على الثمار الناضجة، لكنّهم قطعا لن يعرفوا الفرق بين الأمبا الخيلي أو غيره من الأنواع، وذلك بسبب دخول أصناف جديدة من أشجار المانجو والمستجلبة من القارة الهندية أو قارة إفريقيا، والتي تختلف تمامًا عن الأمبا العماني الفريد في رائحته ومذاقه، والذي غزته الأمراض والقحط فأصبح كالعملة النادرة..
توقيع: "الطفولة وتجاربها تبقي الخيال خصبا، والحدال قصة لن يفهمها إﻻ العمانيون."

تعليق عبر الفيس بوك