المواطنة الحاضنة للحياة

د. سيف بن ناصر المعمري

أكتب هذا المقال من على شرفة الدور السادس من فندق "الفورسيزنس"، الذي يطل على الشاطئ اللبناني الذي لا يزال المارة يقطعونه ذاهبًا وإيابًاً في هذه الساعة المتأخرة من الليل، هذا الفندق يقع في المنطقة التي شهدت حدة الاقتتال أيام الحرب الأهليّة، ومن شرفه تبدو الجبال التي تمتد بامتداد الشاطئ نجوم صفراء متراقصة يسترشد بها على وجود الحياة التي لم تولد إلا بعد أن دفع اللبنانيون الثمن باهظا من أجل محاربة الظلام والمروّجين له سنوات طوال، حين كان السلاح هو اللغة الوحيدة التي تكلم بها البعض من أجل حل الخلافات الناتجة عن التنوع الثقافي، وكأن نصف الوطن لابد أن يموت من أن أجل يعيش النصف الآخر، فالبعض يرى أنّ الوطن ملك له لا يجب أن يشاركه في إدارته أو الانتفاع بثرواته أحد من المواطنين، ومن هنا تسقط أولى دعائم المواطنة، حين لا يكون التنوع أساسًا لبناء الوحدة الوطنية إنّما يصبح منطلقا لتفتيتها، هنا تصبح المواطنة اقصائيّة لا يتمتع جميع أبناء الوطن بحقوقها وحرياتها، مما يقود إلى استحالة تحقيق السلم الاجتماعي، والاستقرار السياسي وهذا ما تعيشه كثير من دول الوطن العربي اليوم، التي تشهد صراعات يقوم فيها أبناء الوطن الواحد بذبح بعضهم البعض وبحماس شديد ربما لن يبدوها لو طلب منهم مقاتلة عدو جاء للنيل من كرامة بلدهم.

إنّ الخطأ الفادح والغلطة القاتلة التي قادت إلى هذا الوضع المأساوي في بعض الأقطار العربية هي التقليل من أهمية تعلم كيفية العيش معاً؛ فالتعلم من أجل التعايش مع الآخرين المختلفين في الوطن الواحد سواء كان اختلافهم دينيا أو لغويا أو عرقياً مهارة لا بد أن تعلم، وتتعلم إذا أردنا أن نحمي الأوطان من الصراعات الطائفية، التي تستغل فيها عواطف المواطن البسيط في التعبئة الحزبية والسياسية والدينية من خلال تعزيز الطائفية والمذهبية المنغلقة على الآخر فتنتشر العصبيات الجماعية التي تقسم الوطن ليس اجتماعيا إنما سياسيا وعلى حساب المواطنة المبنية على الشراكة بين المواطنين وعلى قيم الحياة العامة المشتركة، مما يجعل البعض يعتبر الوطن وطناً في حين يراه آخرون بخلاف ذلك حيث لم تتوفر لهم مقومات المساواة في حقوق المواطنة، ومن ثمّ يكون الانجراف نحو التزّمت والانغلاق، مما يوجد بيئة خصبة لقوى أخرى للعزف على وتر "المواطنة المنقوصة"، و"الحريّة المعتقلة"، و"التمايز الطائفي"، ومن هنا انطلقت كثير من الدعوات للفئات المهمشة التي تبحث عن العدالة الاجتماعية، فكانت الفوضى التي كان يمكن تجنبها لو تم ترسيخ المواطنة الحاضنة للحياة، بدلاً من أن ترسخ مواطنة حاضنة للموت الجماعي، مواطنة مدمرة لكل مقومات الوطن التي أسست خلال عقود طويلة، فهل كان ما جرى قدراً محتوما على الدولة في الوطن العربي أم أنه مسار كان يمكن تجنب السير فيه طالما أنه كان يقود إلى نهاية كالنهاية التي وصلت إليها كثير من الأقطار العربية اليوم؟ أطرح هذا السؤال في المؤتمر الدولي حول "التربية على المواطنة الحاضنة للتنوع من أجل العيش معاً بسلام"، الذي تنظمه مؤسسة أديان خلال الفترة من 24-25 أبريل 2015م، وبمشاركة أكثر من ثلاثين خبيرًا من المتخصصين في التربية على المواطنة من مجموعة من الدول، ولا أعرف ما الإجابة التي ستقدم لهذا السؤال، ولكن على يقين أنّ مؤتمرًا كهذا يأتي في وقت مهم في الوطن العربي، وقت يحتاج فيه الجميع وفي مقدمتهم متخذو القرار وصانعوه في الوطن العربي أن يقولوا "لا" للمواطنة التي تنتج شباباً يموتون من أجل لا شيء، والتي تنتج مواطنين يموتون من أجل لا شيء، يجب أن يقولوا "لا" للمواطنة التي تصنع داخل الدولة الواحدة أكثر من دولة، وتجعل من الوطن أكثر من وطن، هل التحلي بالشجاعة لقول "لا" في ظل هذه الظروف التي تنتشر فيها رائحة الموت في كل مكان في الوطن العربي صعباً لهذه الدرجة؟

أذن، يأتي مؤتمر مؤسسة أديان بمشروع تربوي كبير وطموح من أجل النهوض بالمجتمعات المنقسمة من أسفل، حيث يتم العمل على ترسيخ قيم العيش معا، تلك القيم التي تعيد توحيد أبناء الوطن الواحد تحت مظلة وطنية واحدة، يستظل بظلها جميع المواطنين، مما ينتج شباباً مستعدين لعمل أي شيء من أجل الدفاع عن وطنهم وحمايته وجميع من فيهم بغض النظر عن انتمائهم الديني والمذهبي، وتحقيق ذلك يعني أنّ الدولة نجحت في جعل المواطنين يعيشون معًا في وفاق واحترام، أمّا إذا فشلت في تحقيق ذلك فلا نستغرب المآل الذي آلت إليه بعض الأقطار العربية، فهل كتب على المواطن في الوطن العربي إلا يكون متعايشاً مع ابنه وطنه إذا كان مختلفاً عنه؟

إنّ الوقت قد حان لإعطاء التربية من أجل المواطنة الحاضنة للحياة حقها من الاهتمام، فلا شيء يحتاجه الإنسان في الوطن العربي اليوم أكثر من الحياة، أقول هذا ولا أزال أذكر الصورة التي شاهدتها منذ أسبوعين في إحدى القنوات الفضائية وهي لمجموعة من النساء السوريات يقطعن الشارع ويرفعن لافتات يطلبن فيها المساعدة من المارة لأسرهن، بعد أن فقدت المواطنة الحاضنة للحياة، حين لم يقبل بالتنوع الذي يتيح الحياة والاستقرار ويحقق التعايش، ويجعل الجميع يتقبلون بعضهم البعض طالما هم أبناء وطن، فتمزق الجسد الوطني الواحد، وأصبح من الصعب- إن لم يكن من العسير- معالجته، إلا من خلال التربية الحاضنة للحياة التي تعمل بشكل منهجي، وبمواد معدة بشكل جيد من تعزيز الإرث الوطني المشترك، بما يتضمنه من عوامل تعزز الحس بالانتماء إلى كيان وطني جامع.

لا شك أنّ التربية من أجل المواطنة الحاضنة للتنوع الثقافي العيش معًا، أو التربية من أجل المواطنة الحاضنة للحياة وهو المصطلح الذي استخدمه هنا، تتطلب استراتيجيّة معدة بشكل متقن من أجل أن تقود إلى بناء مواطن يعمل من أجل الحياة بسلام مع الآخرين، فالحرب والصراع لم تنشأ يوما في بلد إلا قسمت أبناءه وجعلتهم يتربّصون ببعضهم البعض، حين أصرّوا على تعداد قواسم الاختلاف بينهم أكثر من تركيزهم على تعداد قواسم الاختلاف، مما يقود إلى التطرّف الذي بدأ يغزو المنطقة ويعمل قتلاً فيها، وبالتالي تركز الجلسة الرابعة من هذا الندوة على "التربية في مواجهة التطرف"، حيث عرضت أربع أوراق بعناوين محورها التطرف، وهي :"تحديات التربية في وجه إغراء التطرف"، و"التطرف وتحدياته للتربية الدينية"، و"برنامج سانت امبروزيوس للحماية من التطرف العنفي"، و"تنشئة الأمة في سياق العولمة وبناء السلام"، وبالتالي تبرز هنا مهمة التربية الصعبة في التعامل مع ظاهرة التطرف التي لا تزال تعصف بمنطقة الشرق الأوسط بما يجعل من التنمية مهمة مستحيلة.

الوطن يهب المواطنة، أمّا المواطنون وفي مقدمتهم الشباب فهم الذين مقابل ذلك يمنحون الحياة لهذا الوطن؛ فلأنّ أوطاننا العربية تستحق الحياة، لابد أيضا أن يستحق مواطنوها الحياة، وهذا المنطلق الذي يحقق جوهر المواطنة، التي يريدها البعض أحيانا مفصلة على مقاسه ووزنه الاجتماعي أو الوظيفي فيعيق بذلك تحقيق التعايش السلمي، فهل سوف تستفيد الدول من الرؤى والتجارب والمشاريع التي ستعرض في المؤتمر بما يعزز من المشروع التربوي الهادف إلى إعادة بناء الإنسان العربي القابل للحياة.

saifn@squ.edu.om

تعليق عبر الفيس بوك