لا سلام بدون سوريا

زاهر بن حارث المحروقي

من أقوال هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق أنه "لا حرب بدون مصر.. ولا سلام بدون سوريا"، وهي عبارة قصيرة ولكنها بليغة، إذ لخصت أمر مواجهة العرب مع إسرائيل بدون أيّ تعقيدات؛ فعندما قررت مصر عقد صلح منفرد مع إسرائيل لم يستطع العرب أن يخوضوا حرباً مع إسرائيل؛ لأنهم ركنوا إلى الإستسلام بحجة أنّ السلام مبدأ استراتيجي سوف يجلب معه الرخاء لشعوب المنطقة؛ وهو الرخاء الذي لم تره الشعوب حتى الآن.

لقد كانت سوريا أكثر المتضررين من مبدأ السلام، ابتداء من الصلح المصري الإسرائيلي وانتهاءً بالعلاقات العربية الإسرئيلية؛ لذا كان عليها أن تغرد وحيدة، لأنّ الأحداث كلها كانت تصب في إقامة علاقات سورية إسرائيلية؛ فالإتحادُ السوفييتي الحليف الرئيسي لسوريا قد انهار، والعربُ يلحون ويضغطون على دمشق أن تسارع في إقامة العلاقات مع إسرائيل، ولا ظهير لسوريا مصرياً أو عربياً، ولا عمقاً استراتيجيا لسوريا مع العراق، الذي دخل في حروب عبثية مع إيران ثم احتلاله للكويت، بمعنى أنّ كلّ الدروب والخيارات المتاحة كانت تؤدي بسوريا إلى تل أبيب، من هنا نشأت العلاقة الاستراتيجية بين سوريا وإيران، التي وجدت فيها دمشق ظهيراً وعمقاً استراتيجياً يعوّض غياب العرب، لذا لم يكن أمام دمشق إلّا أن ترضخ للمتغيرات وتشارك في المسرحيات العربية الإسرائيلية التي بدأت من مدريد، في 30 أكتوبر 1991، والتي قامت فيها أمريكا بدور العراب والوسيط، وقد استمرت تلك المسرحية بين الجانب السوري والإسرائيلي حتى العاشر من يونيو 2000، يوم رحيل الرئيس حافظ الأسد، والذي كان قد قرر إيقاف فصولها، بعد لقائه الفاشل مع الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في جنيف يوم 26 مارس من العام نفسه؛ لأنّ الرئيس حافظ أصر على التمسك بعدم التنازل عن أيّ شبر من الجولان، بعد أن تلاعبت إسرائيل بحدود يونيو 1967، إذ أصرت أن تسلم سوريا الجولان ولكنها تحتفظ بأمتار بسيطة محيطة ببحيرة طبرية، حيث يرى السوريون البحيرة ولا يستطيعون الوصول إليها.

لقد صدرت الكثير من الكتب التي تناولت المفاوضات السورية الإسرائيلية، من الجانب الأمريكي والإسرائيلي، حيث تناولها الرئيس بيل كلينتون في كتابه "حياتي"، وكذلك تناولتها مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية في كتابها "السيدة الوزيرة"، كما تناول هذه المفاوضات إيتامار رابينوفيتش رئيس الوفد التفاوضي الإسرئيلي؛ فيما كان الجانب العربي ملتزماً الصمت، حتى صدر كتاب مهم في مستهل العام الحالي، وهو كتاب "الرواية المفقودة" لفاروق الشرع وزير الخارجية السوري السابق، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الذي قدم فيه الشرع في ٤٤٨ صفحة و١٩ فصلاً، الرواية المفقودة للمفاوضات مع إسرائيل، وحقيقةً من يريد أن يعرف صمود الموقف السوري، ويريد أن يعرف لماذا تعرضت سوريا لما تعرضت له، عليه أن يقرأ تفاصيل هذه المفاوضات سواء كانت القراءة لما كتبه الشرع، أو ما كتبه المفاوضون الأمريكيون والإسرائيليون، فقد كانت سوريا - والرئيس حافظ الأسد بالتأكيد- ثابتة في مواقفها لم تتزحزح عنها، بل إنّ سوريا -بخلاف كلِّ العرب- اتسمت بالصبر وعدم الاستعجال، إذ ظلت على مدى أكثر من تسع سنوات وأكثر من جولة تصر على موقفها، رغم غياب الظهير والنصير العربي، وفي ذلك ذكر محمد حسنين هيكل، أنّ الرئيس حافظ الأسد قابل أكثر من ست وزراء خارجية أمريكا، ولكنه كان يعرض عليهم الموقف نفسه والخرائط نفسها، ومن يقرأ كتاب "الرواية المفقودة" سوف يخرج أكثر معرفة بما جرى في المنطقة العربية منذ الثمانينيات من القرن الماضي، مع إلمام بتفاصيل الدبلوماسية السورية وكيفية صنع القرار في الشأن الخارجي، بل وسوف يخرج أكثر ثقة بعدالة قضية العرب في صراعهم مع إسرائيل، التي ما فتئت تضيع فرص السلام فرصة تلو أخرى، ولكن ما يؤسف له، فرغم كلِّ الحقائق في هذا الكتاب وغيره، هناك من يترك الجوهر وينطلق من منطلق مذهبي ضيِّق، وينتقد الموقف السوري، لأنّ لسوريا علاقات استراتيجية مع إيران؛ في حين كان على العرب أن يكونوا مساندين للموقف السوري، وهناك ملاحظة وهي أنّ فاروق الشرع لم يتناول الوضع الداخلي في سوريا إلا قليلاً، لأنّه كان وزيراً للخارجية، وجاء كتابه هذا مركزاً على المفاوضات العربية الإسرائيلية وليس عن الأوضاع الداخلية.

في هذا الكتاب يتعرف القارئ على المواقف السورية من قضايا المياه، والحدود، ومحطات الإنذار المبكر، وعلاقات السلم، والانسحاب الإسرائيلي من لبنان، إضافة إلى التشبث السوري بخط الرابع من يونيو 1967، والإصرار السوري على عدم فصل المسارات العربية بعضها عن بعض، وهي التي نجحت فيها إسرائيل بأن فصلت كلّ مسار على حدة، بهدف الانفراد بالمسار السوري، كما أنّ القارئ يتعرف على الصمود السوري من خلال سير المفاوضات السورية الإسرائيلية.

هناك مواقف لا يمكن أن تمر على القارئ مروراً عابراً دون أن يتوقف حيالها، ومنها مثلاً ما رواه الشرع نقلاً عن الرئيس حافظ الأسد، من أنّ الرئيس تلقى اتصالاً هاتفياً من الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، ويبدو أنّ ريجان كان يقرأ من نص مكتوب، يتهم فيه سوريا بالضلوع بالإرهاب، قاطعه الرئيس الأسد مراراً ولكن ريجان لم يتوقف عن تلاوة النص الاستفزازي المعد والمكتوب له، فغضب الرئيس الأسد وصرخ على الهاتف: ألا تعرف مع من تتحدث..؟! أنا رئيس سوريا، وأغلق الخط قائلاً ربما لا يعرف مع من كان يتحدث..؟، -والمكالمات الرئاسية كلها مسجلة-، ويعلق الشرع على الموقف قائلاً كان فعلاً ريجان لا يعرف مع من كان يتحدث، لأنه الرئيس الوحيد منذ نيكسون الذي لم يلتق الرئيس حافظ الأسد في دمشق أو جنيف، بل إنّ الشرع يذكر قصة أخرى وهي أنّ فيليب حبيب المبعوث الأمريكي للمنطقة، قام بجولة بين دمشق وتل أبيب أكثر من مرة، ونقل إلى السوريين كلاماً غير حقيقي عن تمسك إسرائيل بعدم العدوان على لبنان، إلّا أنّ الأمر كان غير ذلك تماماً عندما غزت إسرائيل لبنان عام 1982، "فقد غضب الرئيس الأسد على حبيب غضباً شديداً وطلب أن أستدعيه في وزارة الخارجية، وأعلمه أنه شخص غير مرغوب فيه في سوريا، فأبلغتُه، فارتبك وتغيّر لون وجهه، وحاول أن يقول بعض الأشياء التي يبرر فيها ما حدث، لكني أفهمتُه أنه لا بد من تنفيذ هذا القرار"، حقيقة إنّ مواقف كهذه لم يجرؤ عليها إلا القلة من الزعماء في العالم.

لقد لقي الكتاب ترحيباً كبيراً لأنه يوثق لفترة هامة في تاريخ سوريا وتاريخ الأمة العربية، وميزةُ الكتاب أنه جاء بعد عدة كتب تحدثت عن المفاوضات العربية الإسرائيلية، ومحاضرُ الاجتماعات موثقة وكذلك تسجيلات مكالمات الرئيس حافظ الأسد، ثم إنّ معظم أطراف المفاوضات ما زالوا على قيد الحياة، بمعنى أنّ الكتاب مرجع هامٌ لفترة هامة، وربما من يقرأه بإنصاف، سيعرف لماذا حدث ما حدث لسوريا..؟، فما قاله هنري كيسنجر من أنه لا سلام بدون سوريا، فهو حقيقة، وعندما رفضت سوريا أن تستسلم، كان لا بد من اللجوء إلى أسلوب آخر، هو تدميرها وخلخلتها من الداخل، وهذا ما كان، ومع ذلك لا أنفي أنّ الوضع الداخلي أيضاً قد ساهم في توصيل سوريا إلى ما وصلت إليه، ولكن من تدخل في سوريا لا يهمه الشعب السوري في شيء.

هناك بعض الآراء المعارضة للكتاب، والتي ترى أنّ الشرع لا يستطيع التحرك في دمشق إلا بأمر بشار الأسد وموافقته، وأنّ الكتاب جاء بموافقة الأسد، فكيف نقبل كتاباً يصدر عنه في ظلّ الأسد..؟، ولكن على الباحث أن يقرأ ويقارن بين كلِّ الكتب التي صدرت عن هذه المفاوضات حتى يصل إلى الحقيقة.

في أخر سطور كتابه "الرواية المفقودة" يقول فاروق الشرع "هناك أناس يموتون دفعة واحدة، سرعان ما يختفون من حياتنا ومن ذاكرتنا، وحافظ الأسد لم يكن من هؤلاء الناس، سواء أحبه البعض أم ناصبوه العداء، لقد كان كشجرة السنديانة، تموت ولكن جذورها تظل حية في أعماق الأرض".

Zahir679@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك