أقلام مأجورة وثقافة للبيع

رحمة البلوشيَّة

يقولُ ابن خلدون في وصف قيمة الكتابة: "الكتابة صناعة شريفة؛ إذ الكتابة من خواص الإنسان التي تميَّز بها عن الحيوان"؛ فالكتابة شرفٌ ثمنه غالٍ؛ لأنها أداة التعبير والتغيير، وهي فعل صادر عن إنسان واعٍ يمتلكُ من المهارات والقدرات ما لا يمتلكه غيره لأنّها عُصارة فكر وقراءات وتجارب وخبرات. وقد كُنت أظنُّ لوقتٍ قريب جدًّا أنَّ من يمتلك قلماً فهو يمتلك فكراً عظيماً حرًًّا؛ ذلك لأنَّ الكتابة قبل كل شيء هي إيمان بما نكتب وأداة نبحث من خلالها عن قيم الجمال والحق والخير والعدالة والحرية؛ فهي وسيلة التفكير والتواصل الإنساني، وهي الفن الذي تنصهر فيه كل علوم اللغة لتصنع لنا التاريخ والتراث والثقافة والفكر معاً، وليست رصًّا للكلمات المزخرفة والمعاني بقدر ما هي غوص واندماج وذوبان في عالم الكاتب ومكنوناته لدرجة قد نشعر فيها أحياناً أننا أمام نص قد كتب عنا ولنا. يقول جارسيا ماركيز عن الكتابة: "أكتبُ ليحبني أصدقائي". ويقول لورانس داريل: "أكتب لكي أحقق ذاتي".

ومهما اختلفت دواعي الكتابة لدينا، تظل في النهاية أداة نصبُّ من خلالها ثقافاتنا ومعلوماتنا وأحاسيسنا ومشاعرنا الموجودة في ذواتنا. فكل قلم مرآة لصاحبه، وليس شرطا "أنْ تروق كتاباتنا للآخرين" فكل شخص بذائقته واهتماماته، كما أنّ مضامين الموضوع والنوع الأدبي الذي نكتب فيه، أوسع وأشمل من رأي واحد ينصب على رؤاه وجمالياته، وإنني في هذه اللمحة والإشارة عن الكتابة وأهميتها، بصدد الحديث عن وضع أشبه ما يكون بالعجائبي، مع مليون علامة تعجب واستفهام مما نراه اليوم من استغلال للمنابر والقنوات الإعلامية والثقافية لتكون ساحات لبعض أصحاب الأقلام بتصفية الحسابات، وشنّ الحروب الإعلامية لكل من يُمثل خطراً على هالاتهم وأضوائهم، إما نشراً أو ترويجياً، وما أرمي له هنا هو بعض الأقلام المأجورة التي تقتات من كتاباتها مدفوعة من غيرها ممَّن هو محسوب على الكُتَّاب والمثقفين، وممن باعوا مهنة الكتابة والقلم حتى يكونوا أداة مُستغلة لغيرهم، وهم من يخافون على بريقهم أمام بريق غيرهم. وفي عميق نفسي، أشعرُ بأسى كبير، واجتاحني تردد من كتابة هذا المقال، ولأنني أؤمن بما أكتب، أؤمن بالكتابة وشرف القلم، وأنها مهنة إنسانية قادرة على تحويل مسار التاريخ بإبراز حقائقه وثبات جوانبه المشرقة والمضيئة إذا ما توافرت فيها معاني الصدق والموضوعية والحيادية؛ فالممارسات غير الأخلاقية التي يُحاول من خلالها بعض المقتاتين على أقلامهم إسقاط ذواتهم وذوات غيرهم الفارغة ونقصهم في مشهد يتخلُّون فيه عن معايير المهنية والموضوعية بالنقد الهادم مع سبق الإصرار والترصد، النقد الذي يعني بمفهومه العام كشف مساوئ ومحاسن شيء، والوقوف عليه لتجاوز عيوبه وسلبياته وتقويمه؛ بهدف إنتاج الممارسات الإيجابية للأفراد والأعمال والمؤسسات والمجتمعات بشكل عام؛ فالنقد يقومُ مقام التشخيص الطبي لغرض العلاج والشفاء ومُواصلة الطريق والحياة. أما النقد في مافيا الأقلام المأجورة والمريضة، فهو بثُّ الفوضى وتشويه الحقائق وتزييفها بغرض الشهرة أو الكيد للآخر؛ فهناك من يبحث عن الضوء، وهناك من يبحث عن حفنة من المال، وأصبحت الكتابة بين هذا وذاك مهنة مبتذلة رخيصة ضاعت معها الحقائق وضاعت معها الأمانة وتاه فيها الصدق. ومرة أخرى أعود إلى البلطجة المقنعة، إلى منطق الشلة، ولكن اليوم في عالم وشللية المثقفين والكتاب الذي بات عالماً للعلاقات المدفوعة، عالم المصالح والأهداف المشتركة الذي يتلاعب في المشهد الثقافي بتلميع وتسويق البعض ليس بالإبداع ولا المنافسة، بل بإطفاء الآخر وحرقه، في إطار وَجَب أن يكون نزيهاً وشريفاً، إطار الثقافة والفكر، إطار الخير والحق والحرية والجمال، ليكون مبدأ الإبداع فيه "ضوئي يعني إطفاءك"؛ فالنجوم لا تلمع إلّا في الظلام. فالمثقف الذي يعتبر نبراسا تهتدي به الشعوب والأمم أصبح غير بريئا ومشكوكا في نواياه؛ فكيف سيثق المجتمع بعد ذلك بقلمه، ونحن نراه على ما هو عليه من انغماس في بُحور الزيف والتقنع والتدليس عندما تكون الكتابة والثقافة في إطاره بضاعة رخيصة تُشترى وتُباع.

وأخيراً... نأمل أنْ تتطهَّر ساحتنا الثقافية من المجالات وتسليط الأضواء على فئة لحرق الآخرين والكيد منهم.. وأن نضيء الساحة الثقافية بالنقد الصادق لا المزيف، وأن نقدِّر فكر الكاتب مهما اتفق أو اختلف معنا.

تعليق عبر الفيس بوك