سعار التطرُّف

عبدالنبي العكري

يكادُ المشهد العام على امتداد العالم العربي وبعض العالم الإسلامي، يُشبه عَصْر اجتياح المغول والتتار للعالم العربي الإسلامي في أواخر الدولة العباسية؛ حيث يُذكر أنَّ مياه نهر دجلة تحولت إلى السواد بفعل حبر عشرات الألوف من الكتب والمراجع التي رُميت في النهر من مكتبات بغداد العامرة، في حين اصطبغت رمال بغداد بالأحمر القاني، المراق من الآلاف من سكان بغداد وجنودها.

لكنه وإذا كانت تلك صفحة كالحة من التاريخ العربي الإسلامي، فإنَّ المشهد الحالي على الساحة العربية الإسلامية يفوقها كثيراً في ظلاميته ووحشيته.

يقال "إنَّ الحرب تبدأ في العقول".. وبالفعل؛ فما نشهده اليوم من تطرف مخيف والذي يتجلّى في المجازر التي ترتكبها الجماعات التكفيرية في معظم بلاد العرب وبعض بلدان المسلمين، ضد المختلفين معها دينيًّا أو مذهبيًّا أو سياسيًّا، أو حتى اجتهاداً في المذهب الواحد، ومن يخالفونها في الرأي والتفرد بالسلطة، هو وجه من وجوه هذا التطرف، والانحطاط، والذي يستند إلى بيئة من الكراهية والحقد والتطرف انغرس عميقاً في نفوس الملايين من العرب والمسلمين. وكل ذلك يسند كذباً إلى الدين الإسلامي، حيث غذَّته أنظمة عربية وإسلامية عملت طوال عقود، للاستناد إلى ما هو سلبي في التراث الإسلامي، لتتعهّده بالرعاية والترويج، وتحوّله إلى مناهج دراسية من المرحلة الابتدائية حتى الجامعية وما بعدها، وتقيم من أجله منظمات عالمية، تتبعها شبكة واسعة من المساجد والمعاهد والجامعات، لتتلقف الأجيال الشابة، وتشحنها بالأفكار السوداء.

وإذا كان العدو الذي يجرى الشحن ضده في مرحلة الستينيات هو القومية الناصرية والشيوعية واليسارية، فإنه ومنذ انطلاق ما يعرف بالجهاد ضد السوفييت في أفغانستان، تحوّل إلى حربٍ ضد كل ما هو تقدُّمي ومتنور، تحت شعار العودة إلى السلف الصالح. ثم تطوّر الوضع إلى نهايته الطبيعية بتكفير كل من يختلف مع الحركات التكفيرية.

ولقد تعهَّدت أنظمة عربية بتحالف مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وفي سياق الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، هؤلاء الشباب بالتدريب العسكري والتسليح، وأطلقتهم ضد السوفييت في أفغانستان، ثم داخل الاتحاد السوفييتي ذاته في الشيشان وغيرها، لكنَّ السحر انقلب على الساحر، وهكذا انقلبت "القاعدة" ضد رعاتها من العرب والمسلمين، لتدشّن عمليات عسكرية في قلب الجزيرة العربية، ولتنطلق منها لاحقاً إلى بلاد الشام والعراق، ثم إلى باقي البلدان العربية، ولتفرخ إلى جانبها عشرات الحركات التكفيرية.

وهنا؛ وجدتْ الأنظمة والمؤسسات والهيئات الراعية لهذه الحركات نفسها في مأزق، لكنها عمدت إلى حل تلفيقي يقوم على مناهضة هذه الحركات كتنظيمات خارجة على الأنظمة، لكن مع الإبقاء على البنية التكفيرية في المناهج والإعلام والمؤسسات، ولا ضير في إطلاقها على خصومها من الأنظمة في العراق وسورية وليبيا مثلاً.

أمَّا التطور المنطقي، فهو الذي ذهبت إليه "داعش"، وهو إعلان الخلافة لأبي بكر البغدادي، في الدولة الإسلامية البديلة لكل الدول، سواءً تلك التي ترفع راية الإسلام أو الوطنية أو العلمانية، نازعةً عنهم الشرعية، كما أن النهاية المنطقية لسلطة القوى التكفيرية هو العودة بالحضارة إلى بدائيتها في نحر الخصوم والمختلفين، وسبي النساء، وبيع الأطفال، وتدمير التراث الحضاري الإنساني، بما في ذلك المساجد والكنائس والآثار والمعابد باعتبارها بدعاً.

وإذا كانت معظم هذه الحركات التكفيرية والتيار الرئيسي للتطرف قد انطلق من أنظمة ومجتمعات تطلق على نفسها سنية، فإنَّ فئات من المذاهب الأخرى كالتشيع والزيدية، قد اندفعت أيضاً إلى التطرّف كرد فعل، ومارست بعض ما يمارسه التيار التكفيري الأساسي، كما يحدث في اليمن والعراق حاليّاً.

ومن هنا؛ فإنَّ التطرف السنّي يُغذي التطرف الشيعي أو الزيدي والعكس صحيح؛ لذلك فلا تكفي إدانة الحركات التكفيرية وفكرها وممارساتها بغض النظر عن دينها ومذهبها، بل يجب تعرية البنية المؤسساتية والدينية والتعليمية والثقافية والفكرية التي أنتجت هذه الحركات برعاية رسمية وغير رسمية.

... إنَّ المخرج من هذا الانحطاط الذي نعيشه اليوم، قد سبقتنا إليه أوروبا منذ انطلاقة عصر الأنوار، وشيوع أفكار التنوير المدنية والعلمانية، وانحسار الأفكار الدينية الظلامية المسيحية، ثم تبعه نزع سلطة الكنيسة ورجال الدين، وتأكيد سلطة المجتمع وما يفرزه من سلطات، لتكرس نظام المواطنة المتساوية، والتسامح والتعايش، ونبذ التطرف؛ بحيث يصبح ذلك عقيدةً للمجتمع وسياسةً عليا للدولة، بغض النظر عن النظام السياسي ملكيّاً أو جمهوريّاً، رئاسيًّا أو برلمانيًّا، مركزيًّا أو فيدراليًّا، قوميّاً أو متعدد القوميات.

لا يفيد التلفيق أو المواربة، فقد وصل وضعنا إلى انفصام في كل شيء، في الهوية، في العقيدة، في المواطنة، في الانتماء... وصدق علينا قول الشاعر مظفر النواب "أصبح الواحد منّا يحمل في الداخل ضده".

تعليق عبر الفيس بوك