خارطة طريق مستقبلية

ناصر محمد

تعود الآن إلى الذاكرة مقولة الروائي الفرنسي "أندريه مارلو" -المنسوبة إليه- أن القرن الحادي والعشرين هو قرن الديانات، كما تعود إلى الساحة أيضا نبوءات الروائي الروسي "دوستويفسكي" الصوفية في أنّ الخلاص في المسيحية الأرثوذكسية بعد أن يأكل العلم نفسه بنفسه وذلك في الحالة الثورية التقدمية التي اجتاحت الوسط الثقافي الروسي في نهاية القرن التاسع عشر. وليس من سبب في عودة هذه الأفكار إلى الساحة إلا غياب ما كان يقف ضدها وهي: الأيديولوجيات، وماذا يتبقى حين تغيب هذه الموجِّهات سوى ذلك المكبوت الأزلي من الأساطير والانتماءات الدينية والعرقية؟

لم يكن في حسبان العقل الغربي أنّ رياح العولمة قد تكون رياحًا ملتهبة تهب عليها من خارج القارة العجوز، فالرؤية كانت منصبة فقط بانهيار آخر أيديولوجيا سوفييتية لتسقط بعد ذلك كل الحدود والعوائق أمام الحرية والمبادئ الإنسانية، ولم يكن هناك خطأ في التوقعات على مستوى القارة الأوروبية آنذاك، فالاتحاد الأوروبي -المولود من رحم المعاناة الأيديولوجية- كان المبشّر الجديد لخارطة أوروبية جديدة تؤمن بالإنسان الأوروبي وتصهر القوميات في وعاء المصالح المشتركة. ولم تكن الفلسفة بمنأى عن السياسة والاقتصاد، فالمقولات الفلسفية القائمة على التمايز والاختلاف مثل الجوهر والذات والحد صارت مستهدفة من قبل معاول الفلاسفة الجدد الذين انبروا لنقد الذات الغربية القائمة على منطق الذات إلى تذويب الحدود بينها وبين الذوات الأخرى، وإقامة فلسفة جديدة قائمة على إنكار الذات!

ولكن هل تتفق باقي الكرة الأرضية مع ما آلت إليه القارة العجوز؟ ربما جميع الأحداث التي تلت انهيار جدار برلين تنبئ بعكس آمال متفائليها، ولأحداث الحرب الأهلية في يوغوسلافيا السابقة القائمة على الصراع الطائفي والعرقي دليل على عودة ما ظُنَّ أنه من بقايا التاريخ، وما حصل في بريطانيا من مظاهرات تكفيرية على "سلمان رشدي" وقبلها في فرنسا وأمريكا من موجات أصولية ضد فيلم "الإغواء الأخير للمسيح" للروائي اليوناني "نيكوس كازانتازاكس"، وظهور قضايا الإرهاب والتفجيرات المستهدفة للمدن وحدث الحادي عشر من سبتمبر المفتتح للقرن الجديد، وظهور اليمين السياسي في العالم المتقدم من توغل الأحزاب المحافظة في الحكومات الأوروبية وظهور الإسلام السياسي عقب الربيع العربي، كل هذه الأحداث حوّلت مسار الحلم الإنساني إلى كابوس من صحوة الانتماءات التي أعادت الذات إلى البروز من جديد، ذات غير الفلسفيّة بقدر ما هي ذات أسطورية قاتلة.

وما يدعو للتشاؤم هو عدم وضوح الرؤية للفاعلين في الساحة الدولية، فكما يوضح "ادوارد سعيد" في كتابه "الاستشراق" أنّ الفكر السائد عن الشرق لدى الغرب محكوم ببنى استشراقية تصرّ على أنّ الشرقي هو ذات واحدة متصلبة في كل مراحل التاريخ، فهو المؤمن المتعصّب والشهواني وغير المنطقي والمنفعل والذي يجب أن يُقاد لعدم قدرته على القيادة، وللأسف هذا ما يتم تدريسه في المدارس الغربية وفق ما طرحه "إدوارد" لبعض نصوص من المناهج. وبهذا، وكما يقول "أمين معلوف" في كتابه "الهويات القاتلة" بما في معناه أنّ على الغرب أن يحترم ثقافات الآخرين ولكن ليس بمعيار دمج المهاجرين قسرا في الثقافة الغربية، بل باحترام ثقافتهم وانتماءاتهم دون أي انتقاص، والذي قد لا يتم في المستقبل القريب!

إن ما يشاهد الآن على الساحة العالمية من إعادة تشكيل الخارطة وظهور قوى جديدة على الساحة يظهر بشكل واضح أن محركها هي الانتماءات المستغلة سياسيا، وربما يتضح الأمر أكثر في ما يجري في الشرق الأوسط من أحداث، فقبل العولمة -أي أيام الأيديولوجيات- كانت الأفكار تتوافد ببطء على الشعوب وذلك ما يجعل من الإعلام الرسمي قادرا على تشكيل وعي متكامل للشعب المستهدف وتأطيره على المستوى الوطني أو القومي، ولكن في ظل الثورة المعلوماتية الحالية، والتي توسع الذاكرة الدينية والعرقية والأسطورية لأعلى المستويات، فإنّ الانتماءات المحددة من قبل الأوطان السابقة سوف تذوب لتمتد إلى أقاليم أخرى تنتمي إليها طائفيا أو عرقيا، لتشكل خارطة جديدة مخالفة لتوقعات السياسات الكبرى التي تطمح إلى تشكيل هويّات قائمة على الديموقراطية والتعددية، ويندر الآن تفسير سلوك أي دولة على دولة أخرى بأنه قائم على مصالح الدولة وسيادتها بقدر ما هو قائم على الاستقطاب الطائفي بينهما مثلما هو حاصل الآن في إيران واليمن ولبنان والعراق والسعودية والبحرين ومصر.

وإذا كان هناك نوع من التفاؤل من رياح العولمة فهو توسيع الذاكرة كذلك بالوجه الآخر للطائفية وما تصاحبه من دمار، فوسائل التواصل الاجتماعي تنشر الدعوات نحو تخليص بلد ما من طائفة معينة، إلا أنّ هذه الوسائل تطرح - في نفس الوقت- أرقامًا وصورًا لمدى بشاعة هذه الحروب وتعيد النظر إلى الأهداف التي رسمت، ولهذا فإنّ "حقوق الإنسان" مثلا تستخدم كسلاح ضد دول الشرق الأوسط "غير الديموقراطية" عبر تضخيم الانتهاكات أو نشر غسيلها مما يؤثر على رأي عام الدول الأخرى، مما يستدعي مراجعة سياساتها وقوانينها لتتلاءم مع موجة حقوق الإنسان العالمية، وربما تصريحات "أوباما" بعد اتفاق إيران النووي في لوزان لهو نوع من الدغدغة لهذه الدول التي كانت أمريكا تغض الطرف عنها عندما كانت مصالحها مرتبطة بها، كما أنّ تغير موقف البيت الأبيض من إسرائيل إثر تصريحات أحد مسؤوليها الكبار بأنّ فلسطين سوف لن تقوم طالما هو على سدة السلطة له تأثير عميق في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية على الرغم من اعتذار المسؤول المتكرر للبيت الأبيض! وفوق كل هذا فإنّ الغرب مدعوٌّ لتغيير نظرته عن الشرق وعن العالم عموما إذ أنّ الغضب كان يتم تنفيسه في الدول نفسها، بينما الآن صار الغضب يمتد إلى الغرب وفي عقر داره مما يفترض عليها أن تعيد وجهة نظرها في مليار إنسان كان في الماضي مجرد خطأ خَلقي وغباء سرمدي.

تعليق عبر الفيس بوك