العصا والجزرة الأمريكية

زاهر بن حارث المحروقي

من المصطلحات التي شاع استخدامها سياسياً؛ مصطلح "العصا والجزرة"، وهو تعبير مجازي يشير إلى مبدأ الثواب والعقاب، ويقال إنّ هذا التعبير جاء من أوروبا، إذ كان أهلها يروّضون البغال والحمير باستخدام العصا والجزرة؛ بحيث يتم مسك الجزرة بيد ووضعها أمام الحمار، ويتم مسك العصا بيدٍ أخرى، فسيسير الحمار طمعاً في الجزرة، وإن عصى فله العصا؛ والتعبيرُ يُعتبر مسيئاً لمن يُستخدم ضده. لقد مارست أمريكا دائماً سياسة العصا والجزرة، بتطبيقها أسلوب تقديم المعونات والمساعدات المادية والعسكرية وغيرها، للدول التي ترضخ لأوامرها، تحت مسمى الدول الحليفة، وكذلك تطبيق أسلوب التهديد على الدول التي ترفض سياساتها؛ إلّا أنّ الدول الحليفة نفسها لا تسلم من العصا متى ما انتهت المصالح الأمريكية مع هذه الدول؛ أو إذا وجدت أمريكا حليفاً آخر يقوم مكان الحلفاء الحاليين. يبدو أنّ أمريكا في طريقها الآن لتغيير سياستها مع حلفائها الخليجيين من الجزرة إلى العصا، بعد الاتفاق المبدئي بين إيران وأمريكا حول الملف النووي الإيراني، وبعد التصريحات التي أدلى بها الرئيس أوباما للصحفي توماس فريدمان، ونشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية يوم 7 إبريل 2015، والتي قال فيها إنّ أكبر خطر يتهدد عرب الخليج ليس التعرض لهجوم من إيران؛ إنّما سخط الشبان الغاضبين العاطلين داخل بلادهم، والإحساس بعدم وجود مخرج سياسي لمظالمهم، وكذلك وجود الإيديولوجيات الدينية المتطرفة؛ بل إنّ الرئيس أوباما استبق لقاءه المزمع مع قادة دول مجلس التعاون في منتجع كامب ديفيد "المشؤوم"، لمناقشة مخاوف هذه الدول من الاتفاق النووي مع إيران؛ بأن قال إنه سيُجري "حواراً صعباً" مع حلفاء الولايات المتحدة العرب في الخليج، وسيَعِدُ خلاله بتقديم دعم أمريكي قوي ضد الأعداء الخارجيين؛ لكنه سيقول لهم "إنّ عليهم معالجة التحديات السياسية الداخلية"، فبعدما قدم العصا والجزرة، فإنه قدّم خطوطاً عريضة لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية المقبلة في المنطقة، عندما قال إنّ على دول الخليج أن تكون أكثر فعالية في معالجة الأزمات الإقليمية، وأشار إلى أنّ هناك رغبة خليجية كبيرة لدخول أمريكا إلى سوريا والقيام بأيِّ شيء، "لكن السؤال هو: لماذا لا نرى عرباً يحاربون الانتهاكات الفظيعة التي تُرتكب ضد حقوق الإنسان أو أن يقاتلوا ضد ما يفعله الرئيس الأسد..؟" وهو إذْنٌ بأن يحارب العربُ العربَ بأنفسهم، وبأنّ أمريكا لن تخوض حروبا عبثية عنهم، ويبدو الآن أنّ هذه هي ملامح السياسة الأمريكية المتبعة بعد الحرب على اليمن.

إنّ الاتفاق الإيراني الأمريكي سيغيّر الكثير من موازين القوى في المنطقة، وسيحاول الكثيرون أن يعرقلوا الاتفاق النهائي حتى وإن تطلّبَ الأمر أن تقام حروبٌ وهمية أخرى لتوريط إيران فيها؛ وفي الواقع فإنّ ما قاله الرئيس أوباما حول الأوضاع الداخلية هو كلامٌ حقيقيٌ وواقع، فالأنظمة يجب أن تستمد شرعيتها من الداخل، مع الحفاظ على كرامة وحقوق الإنسان، ولا يمكن أن تستمد الأنظمةُ الشرعيةَ في وقت يعاني الناس فيه من الجوع، والميزانياتُ الضخمة يتم التلاعب بها، وتذهب الأموال سدى.

إنّ سياسة العصا لا تنفع مع الأقوياء؛ وإنّما تنفع مع الضعفاء فقط، فقد رأينا كيف فشلت هذه السياسة مع الكثيرين مثل إيران وكوبا والصين وكوريا الشمالية وغيرهم؛ بل إنّها فشلت حتى مع سوريا التي ظلت وحيدة تقاوم وتصارع؛ ومن استمد شرعيته من الداخل هو الذي نجح في تحدي هذه السياسة؛ ولنا مثلا في كوبا التي ظلت تحت الحصار الأمريكي أكثر من نصف قرن؛ إلّا أنّ صمودها جعل أمريكا تتراجع عن الحصار، لدرجة أن يعترف الرئيس أوباما بالخطأ الأمريكي، وكذلك لنا مثلاً في صمود كوريا الشمالية التي لم تتزحزع عن مواقفها الثابتة قيد أنملة.

لقد طبقت أمريكا هذه السياسة مع سوريا؛ وقد فشلت أيضاً، لذا كان اللجوء إلى أسلوب آخر، هو تدمير سوريا وخلخلتها من الداخل؛ فسوريا رفضت مبدأ "العصا"، وكان الرئيس حافظ الأسد وطاقمه، يتعاملون مع الأمريكان نداً لند في كلِّ المفاوضات التي رعتها أمريكا بين سوريا وإسرائيل، ولم يستسلموا للابتزازات الإسرائيلية، وكانوا صبورين طوال المفاوضات التي تواصلت سنين، ابتداء من مدريد عام 1991، وحتى عام 2000 عام رحيل الأسد؛ ويقول فاروق الشرع وزير الخارجية السوري السابق في الصفحة 276 من كتابه "الرواية المفقودة": "كان الرئيس حافظ الأسد يتميز بنفَسه الطويل في القضايا الشائكة، ولم يكن قط من المستعجلين أو المتهورين في القضايا العليا، وهو لم يكن من النوع الذي يرد في اليوم نفسه، أو في اليوم الذي يليه على رسالة مهمة حتى ولو كانت من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية"، وبالتأكيد، فإنّ نفَس سوريا كان طويلاً ولم ترضخ للجزر المقدم لها، حيث صمدت في المفاوضات أكثر من تسع سنوات قبل أن تتوقف؛ بينما لم يصمد الرئيس أنور السادات أسبوعين في كامب ديفيد، ولم يصمد الوفد الفلسطيني أربعة أشهر في أوسلو، - حسب رأي عبد الباري عطوان.

أما عن أسلوب "الجزرة"، فيشير فاروق الشرع من الصفحة 402 من كتابه، إلى لقاءاته مع الرئيس كلينتون في واشنطن وكذلك مع الوزيرة أولبرايت، وذلك يوم 28 سبتمبر 1999، ويقول: "كانت أولبرايت تتساءل: لماذا لا نطالب -كغيرنا- بمساعدات أمريكية ودولارات كقروض ميسرة، ونحن وسط عملية السلام..؟!" ويقول الشرع: "لقد حدثتني في مرة سابقة أنها حين قررت أن تكون زيارتها الأولى إلى براغ -مسقط رأسها-، بعد أن أصبحت وزيرة للخارجية الأمريكية، أصيبت بالصدمة، حين كان أول سؤال وُجِّه إليها من مستقبليها الذين حشدوا آلاف التشيكيين لاستقبالها: كنا نظن أنك أتيت بدولارات لنا..! الآن.. الإسرائيليون وليس أنتم الذين يطالبون بمليارات الدولارات في حال الانسحاب من الجولان". وكان تعليق فاروق الشرع في الكتاب: لم أعلق، لأنّ أيّ تعليق قد يفهم منه عكس ما أقصد، وخصوصاً أنّ طلب المال قد يريق ماء الوجه..!

لقد صمدت سوريا في مواقفها وثبتت على مبادئها التي تؤمن بها -وهذا في حد ذاته انتصارٌ-، ولكن غياب الظهير العربي لسوريا، ثم وجود مشاكل داخلية كثيرة كالتي أشار إليها الرئيس أوباما في الخليج ومنها غياب الحريات الفردية، هي التي أدت بالوضع أن يصل إلى ما وصل إليه.. ولكن على دول الخليج الآن أن تعي المتغيرات في الأرض وأن تبني سياساتها على هذا الأساس، وبناءُ السياسات لا يعني شن حروب عبثية يمنة ويسرة؛ وإنّما باحترام الشعوب وبإعطائها الحرية، وبأن تعرف الحكومات أنّ الشعوب هي الأحق بثرواتها، ثم إنّ إقامة علاقات متوازنة مع إيران هو السبيل الأنجح لاستقرار المنطقة، وليكن رجب طيب أوردغان - "الرجل البراجيماتي"- مثلاً في ذلك، وهو الذي سارع إلى طهران وعقد صفقات بالمليارات مع إيران، فيما بعض دول الخليج تتكلم عن الحوثيين والصفويين والمجوس والخوارج والكفرة؛ وعندما تحين اللحظة المناسبة، سيبحثون عمن يحارب عنهم؛ ومن يموت نيابةً عنهم في ساحات القتال الوهمية، مرةً من المغرب، ومرةً من مصر، ومرةً من الأردن، ومرةً من تركيا، ومرةً من باكستان، وحتى من إسرائيل؛ وقد تكون التغريدة التي غرّد بها أحد الأكاديميين الخليجيين تدلُّ على أنّ مهما حصل من متغيرات في العالم؛ إلّا أنّ العقلية الخليجية لن تتغير، وذلك عندما كتب أن "تركيا وباكستان خذلتانا، فليس أمامنا إلّا أمريكا".

على دول الخليج أن تقلق من المستقبل، داخلياً وخارجياً، فأمريكا ليست مستعدة أن تحارب عنهم، وإسرائيلُ تبحث عمن يحافظ على أمنها القومي؛ وحسب بعض الدراسات فإنّ أمريكا لن تحتاج النفط العربي بحلول عام ٢٠٢٠، إذ ستكون هي أكبر منتج للنفط في العالم، والعلاقاتُ الأمريكية الإيرانية ستزدهر، وستخرج إيران من عزلتها، فعلينا أن نستغل ذلك؛ لأنّ سياسة العصا الأمريكية ضد الخليج قد بدأت ملامحها، ولا عزاء لمن ينتظر الإخلاص الأمريكي لحلفائها، فوفاءٌ كهذا يصلح في قصص الحب والعشق والغرام فقط.

Zahir679@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك