الجالسون خلف المكاتب

أحمد الرحبي

لا شك أنّ للسلطة مغريات كثيرة وعلى رأس هذه المغريات الاستزادة من هذه السلطة ذاتها ومراكمتها، فالسلطة تتيح في غياب الرقابة وعدم ممارستها بشكل هرمي صحيح في منظومة الجهاز الإداري للدولة الاستفرادَ بالقرار والتحكم بمن هم أدنى، وجعل الأمور صغيرها وكبيرة رهينة في يد من يحوز السلطة ويستفرد بها، ولاشك أنّ السلطة بمعناها السلبي الذي نقصده هنا هي شخصنة المنصب حيث نجد أنّ الشخص دائمًا يطغى على المنصب ويصبح المنصب حينئذ لا فرق بينه وبين الشخص الذي يتقلده في تطابق تام لا يمكن الفصل بينهما، وتعتبر مثل هذه النماذج من السلطة الهائمة على وجهها في الواقع مشكلة المشاكل في الأجهزة الإدارية وفي ومؤسسات الدولة العميقة في الوطن العربي.

ومثل هذه السلطة المطلقة التي يمكننا وصفها بأنّها دائما هي مفسدة مطلقة تفتح المجال واسعًا لممارسات كثيرة خاطئة خارج مظلة القانون الإداري ومن خلف ظهر سلطات الرقابة والتدقيق القانوني في الدولة، فبعيدا عن مظلة القانون الإداري ومن وراء ظهر سلطات الرقابة والتدقيق تجد مثل هذه السلطة المكتفية بذاتها الفرصة متاحة لها والأبواب مشرعة أمامها لممارسة مفاسد كثيرة وعميقة الأثر في مفاصل الجهاز الإداري والمالي للدولة، والأثر العميق الأخطر من بين مفاسدها الكثيرة المتعددة الذي تخلفه مثل هذه السلطة المطلقة، هو التغول في ممارسة الفساد المالي والإداري في أجهزة الدولة ومؤسساتها، فعند مراكمة السلطات وتركزها في قبضة شخص واحد أو حزب واحد بلا حسيب أو رقيب، وغياب الهرمية في توزيع السلطات في المؤسسة الواحدة والجهاز الإداري الواحد، يكون حينها الأمر مغريا بلا شك ومثيرا للشهية في ممارسة الفساد المالي والإداري، حيث لا يتورع من لا يجد وازعا قويا في نفسه يردعه، عن استخدام السلطة الغير محدودة المتركزة في يده، في سرقة ونهب المال العام.

ومن أجل إطالة مدى بقائه على كرسيه وتشبثه بموقع السلطة يكون الفساد الإداري هو لعبته في حرب البقاء القذرة الدائرة دائما بين قروش وحيتان وتماسيح السلطة المتوحشة والخطيرة هناك في القمة من كل مؤسسة وجهاز حكومي التي تعصف بها أعاصير وتقلبات السلطة المطلقة، ومن المؤكد إن هذا النوع من الفساد لا يقل خطورة عن الفساد المالي فهو إلى جانب إنه يؤسس للمحسوبية والأنانية وروح الانتهازية والتسلق ينتج عن هذا الفساد تشوه حاد في الهيكل الوظيفي والإداري للمؤسسة.

وهذا الوضع من الطبيعي إنه يتجه إلى خلق ما يعرف بالبيروقراطية في مفاصل الدولة وأجهزتها والذي يعتبر أقرب تعريف لها هو زمرة الحريصين على استمرار وبقاء النظام الإداري لارتباطه بمصالحهم الشخصية، حتى يصبحوا جزءا منه ويصبح النظام جزءا منهم، ولو عدنا إلى التعريف الصحيح لكلمة بيروقراطية.. لوجدنا أن المعنى اللفظي لها مكون من مقطعين: الأول (بيرو) وهي تعني مكتب والثاني (قراطية) وهي مشتقة من الأصل الإغريقي كراتس ومعناها السلطة والقوة، والكلمة في مجموعها تعني (قوة المكتب أو سلطة المكتب) وبالإضافة إلى أن البيروقراطية تعني فيما تعنيه الروتين الممل والإجراءات المعقدة التي ليس لها فائدة سوى تأخير المعاملات وتعقيدها فهي تستخدم أيضا للدلالة على الرجال الذين يجلسون خلف المكاتب الحكومية ويمسكون بأيديهم بالسلطة، ولكن توسع هذا المفهوم ليشمل المؤسسات غير الحكومية كالمدارس والمستشفيات والمصانع والشركات وغيرها، وقد كان أول ظهور لهذه النظرية في ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر، حيث يرجع الفضل إلى ماكس فيبر عالم الاجتماع الألماني (1864- 1920) في وضع نموذج يحدد مفهوماً مثالياً للبيرقراطية يتفق مع التوجهات التي كانت سائدة في عصره، وفي تعريف دقيق لهذا المصطلح، يمكننا القول بأن البيروقراطية هي نقيض الثورية في العمل والإنجاز والابتكار الإداري والوظيفي في أجهزة الدولة، فهي الروتين الممل والإفلاس الذي يتقنع خلف أقنعة لا تعد ولا تحصى من الإجراءات العقيمة المملة، و في الأخير هذه البيروقراطية، هي الأشخاص وقد فاق وتعدى نفوذهم حجم المؤسسة وحدودها، وفاض نفوذهم لكي يتجاوز مصلحة المؤسسة، وذلك من خلال الاستجابة بالدرجة الأولى لمصالح الشخص المسؤول على حساب مصلحة المؤسسة.

تعليق عبر الفيس بوك