إيران والغرب والمقاومة

علي بن مسعود المعشني

في تقديري الشخصي - ومن واقع الأصداء في العالم - يمكن القول بأن الاتفاق النووي بين إيران والغرب، لا يقل كثيرًا عن أصداء انتصار الثورة الإيرانية في عام 1979م. فإذا كانت الثورة فعلاً ومطلباً وأداة وطنية للتغيير في إيران، أحدثت زلزالًا وتداعيات مفصلية في التاريخ البشري المعاصر، كالثورة الشيوعية في روسيا، فإنّ الحصار والعقوبات الغربية أتت كرد فعل طبيعي بحجم الثورة، لوأد الثورة الوليدة أو حصرها في جغرافيتها، كي لا تنتقل "عدواها" بالتقليد والمحاكاة إلى الإقليمية والعالمية كأيّ ثورة حيوية في العالم عبر حلقات التاريخ البشري المعاصر ولكبح طموحها وتحجيمه في جغرافيتها.

وبما أن الجغرافيا لا توقف الثورات كونها أداة ومكونا من التاريخ العابر للحدود والأجيال، فقد تناسلت الثورة الإيرانية من حولها وخارج جغرافيتها، أفكارًا وقناعات وتساؤلات وإعجاب وتعاطف. رغم كل الحروب العلنية والسرية، والتشويهات التي رميت بها من قبل الجوار الجغرافي أولاً وأخيرًا وتحديدًا من تيار التطبيع وبقايا حلف بغداد ومبدأ نيكسون (غوام) في المنطقة.

واجه الغرب الثورة الإيرانية عبر حلفائه في المنطقة وفق نظرية بريجنسكي القائلة بأهمية وفاعلية الحروب الدينية، والتي نفذها شركاء الغرب في المنطقة بكل جدارة وتفانٍ كحرب بالإنابة، حيث تناسلت نظرية الحرب تلك على الروس في أفغانستان، ثم أتت أكلها في تدمير العراق فالربيع العربي المشؤوم لاحقًا، حيث ساد الخطاب المذهبي كسيد وواجهة للحرب الدينية في المنطقة ومازال مفعوله ساريًا لغاية اليوم في أزمة اليمن وبجلاء شديد.

المشكلة أنّ الغرب وعلى رأسهم أمريكا اتكأوا على عصا نظرية بريجنسكي في نظرتهم وتعاملهم مع إيران الثورة، ولم يهتموا أو يلتفتوا لتلك العصا المهترئة والمتآكلة، والتي تجاوزتها الحاجة الفعلية بعد تجاوز الثورة لأكبر اختبار وتحدٍ لها، وهي الحرب العراقية الإيرانية المدمرة لثمان سنوات عجاف. وما تخللها من فصول حادة كذلك كحرب لبنان وتفجير مقر الحكومة بطهران ووفاة مرشد الثورة.

لاشك أنّ تجاوز الثورة لتلك الحرب وفصولها زادها عزيمة وإصرارًا وقوة على مواصلة النهج والتحدي للغرب، عبر تعزيز قوة جبهة الداخل، وتوظيف زخم الثورة وحيويتها وأهدافها في كسب المزيد من المؤيدين والمتعاطفين، بل والمتضررين من الصلف الصهيوني والنرجسية الغربية في العالم.

فتحولت إيران إلى قوة إقليمية متفردة في غضون ثلاثة عقود، رغم كل الحروب والحصار والعقوبات من قبل الغرب وشركائه في المنطقة.

اختزل الغرب لاحقًا، كل عداءه لإيران في برنامجها النووي، وتناسى جميع مؤثرات إيران وأدوات حراكها في الداخل والخارج، حتى أصبحت رقمًا صعبًا في المعادلات السياسية والعسكرية والاقتصادية، ومن ثمّ أجبر الواقع الغرب على خوض مفاوضات ماراثونية معقدة مع إيران، حول الملف النووي فقط وبمعزل عن المخاوف الغربية الأخرى، ومخاطر إيران من وجهة نظر الغرب، كقوة عسكرية مرعبة ورادعة، ونفوذ سياسي مؤثر وفاعل، وواقع اقتصادي متنامٍ.

بكل تأكيد، لم يكن لإيران أن تجمع كل هذه النجاحات وبهذا الحجم وتحصد ثمارها اليوم، لولا الاستفزاز الغربي وسياسة حافة الحرب التي وجهها الغرب لإيران طيلة العقود الثلاثة الماضية، في جهل غربي واضح بمقدرات إيران وزادها الحضاري والتاريخي، وهو الواقع الذي يجهله الغرب ولا يعيره الاهتمام اللائق في تعامله دومًا مع خصومه وحلفائه على حد سواء.

بلا شك أنّ "العروبة السياسية" لإيران الثورة، هي من منحتها الكثير من هذه الهوية، وهذا المجد والجاه، فالفراغ الذي وجدته إيران على الساحة العربية وهي الساحة الأشد سخونة والأكثر حضورًا على سطح الأحداث في العالم ملأت مساحات حرجة منه لايستهان بها.

فقد وجدت إيران الحضارة والتاريخ في الفراغ السياسي العربي، وسر الصراع ضالتها، لتعبر عن نفسها، وتركب موجة الأحداث وتصنعها ومن خلالها التاريخ كذلك، والذي توقف إنتاجه لدى الكثير في المنطقة وفضلوا استيراده جاهزًا.

يدور اليوم الهمس بين تيار التطبيع (الخاسر الأكبر في الاتفاق النووي) عن التنازلات التي قدمتها إيران في سبيل إقرار الاتفاق بصيغته النهائية، وخروج إيران من نفق العقوبات الاقتصادية والحصار!؟ وهل التضحية بحلف المقاومة وارد في كواليس المساومات!؟.

نقول لتيار الربيع والتطبيع، إن إيران كان يكفيها قرارًا واحدًا فقط، وهو إعادة رفع علم الكيان الصهيوني في سماء طهران، "لتنعم" بالنووي والانفتاح الاقتصادي وصفة الشريك الأول للغرب وأمريكا تحديدًا في المنطقة. وهذا الكلام ليس أضغاث أحلام، بل واقع، وعرض "مغري" دائم من الغرب لكل من يساهم في حماية أمن الكيان الغاصب، وتكون المكافأة بحجم قوة وتأثير المُستقطب، وسبق أن عُرض هذا على كل من الرؤساء صدام والأسدين حافظ وبشار.

من لم يفهم حقيقة الصراع والاحتراب في المنطقة ومحوره وبين مكوناتها وأطيافها، حاصرت عقله أكذوبة الصراع المذهبي وركب موجتها ليُريح عقله من التفكير والتدبر والتحليل، بينما الحقيقة أن الصراع هو صراع بين مشروعين، مشروع تطبيعي مع كيان العدو، ومشروع مقاوم للعدو والتطبيع معه، وبالتالي فمن الطبيعي أن تمتد فصول الصراع إلى حروب ومعارك تعزز من رصيد كل طرف، وأن تكون المذهبية وتزييف الحقائق والتاريخ من أدوات هذا الصراع.

فالتيار المقاوم، لم يحقق انتصارات على الأرض بفعل مكوناته القتالية (حزب الله وفصائل المقاومة بغزة)، بل تعدى ذلك إلى تعرية منظومة تيار التطبيع ومروجي ثقافة القضاء والقدر الأمريكي ووكلاؤها في المنطقة، وبالتالي الإسهام المباشر في سقوطهم الأخلاقي المنظم في أعين شعوبهم والرأي العام العالمي، وهي مقدمة خطيرة للسقوط المادي القادم لا محالة. واتساع الفجوة بين تلك النُظم وشعوبها، وتلك النُظم والنتائج على أرض الواقع كذلك.

فالاتفاق النووي في مجمله ومحصلته، ليس سوى إقرار صريح من الغرب بانتصار إيران وحلفائها في هذه الجولة، وإن الهدنة خير من الاستمرار في خوض حرب استنزاف خاسرة. لذا فإنّ شرط مراقبة الاتفاقية لـ (10) أعوام، هو شرط هلامي وحمّال أوجه، حيث يمكن بافتراء وكذبة من مراقب أو خبير، الانقلاب على الاتفاقية والتملص منها بزعم "مماطلة" إيران!! كون الغرب "لا يماطلون"!!.

يُضاف إلى ذلك، أن الاتفاقية في القانون الدولي تختلف عن المعاهدة، فالاتفاقية تعني الحكومة التي وقعت عليها ولا تعني الحكومات التالية ما لم تكن هناك مصالح قائمة تحد من إلغائها. بعكس المعاهدة والتي تقرها الحكومات والبرلمانات والاستفتاء الشعبي معًا، وبالتالي لا تُنقض إلا وفق تلك التراتيبية القانونية والدستورية. من هنا فإنّ تربص الكونجرس واللوبي الصهيوني باتفاقية لوزان واضح وجلي للانقضاض عليها في الوقت المناسب بزعم وهمي عابر.

كما أنّ الغرب، "يُراهن" على أن هذه الاتفاقية سيتسلل من خلالها إلى العمق الإيراني، ويخترق تحصيناته المنيعة، عبر الشركات العابرة للقارات، والاستثمارات، وبالتالي ستُمثل مرحلة تنويم إيران في العسل، كما حدث في السيناريو الليبي، والهدوء الذي يسبق العاصفة . و"يأمل" الغرب كذلك من خلال اتفاقية لوزان، أن يُعلي من شأن من يسمون بالتيار الإصلاحي في الداخل الإيراني، وبالتدريج عبر رؤية الشارع الإيراني لمنافع مادية مكتسبة على الأرض بفعل التعامل مع الغرب والانفتاح عليه، وبالتالي تراجع منسوب "الثورية" وخيار المواجهة وانحسار تيار المحافظين وبرنامجه المقاوم للغرب، والتخلي عن تبني القضايا العربية المحورية والاشتغال على الشأن الداخلي، وهذه إستراتيجية غربية بعيدة ومنذ ولادة الثورة، لإنهاك الداخل الإيراني بالحروب والمؤامرات والحصار المدعومة من تيار التطبيع العربي، لخلق تشققات وتصدعات في الولاء والقناعات والعقائد السياسية، والتي ربحها التيار المحافظ على الدوام وتجاوزها بكل جدارة واستحقاق. والأيام حُبلى بالمفاجآت.

قبل اللقاء: خرجت دراسة عميقة عام 2008م، من معهد بيجن للدراسات الإستراتيجية بتل أبيب، مفادها: "لكل مسلم قلبان، قلب في الحرم المكي وقلب في النجف وكربلاء، ولهما قلب ثالث في الأقصى، وبشغل القلبين الأولين في بعضهما (صراع سني شيعي) يتم تناسي القلب الثالث، وتهنأ إسرائيل بالأمن والأمان".

وبالشكر تدوم النعم

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك