"سلم العيون"...!

عائشة البلوشيَّة

هذه "الجُملة الفعلية" المقتضبة هي بمثابة العقد المختوم لاتفاقية تفاهم بين الأب ومعلم القرآن في عُماننا الغالية في الماضي، وهي تحملُ في طيَّاتها الكثير من الدلالات والمعاني التربوية والاجتماعية؛ فهي تعزِّز الثقة المتبادلة بين طرفي الاتفاق؛ فهي من الجانب الأول تعطي المعلم المرونة للتعامل بالأسلوب الأمثل مع شخصية الطفل، ولا يتعدَّى ذلك الأسلوب سياسة العصا "المحناية" أو "الخضرية" أو "غلج لومي أخضر"، وهي من الجانب الثاني تريح الأب من أمر متابعة ابنه وما درسه. أما المأسوف على حاله حينها (طالب العلم/ الدارس) ليس له إلا أن يبذل قصارى جهده حتى لا ينفذ المعلم بنود الاتفاقية. وبعد أن فتحت المدارس النظامية أبوابها بإشراقة فجر الثالث والعشرين من يوليو المجيد من العام 1970م، كان استدعاء ولي الأمر يعود وبالا على رأس الطالب حينها؛ فولي الأمر -سواء الأب أو من ينوب بديلا عنه- كان لا يذهب إلى المدرسة إلا ﻷمر جلل، أو مصيبة جاء بها الطالب؛ حيث تعوَّد الآباء على مدارس القرآن الكريم أو الكتاتيب، يرسلون أبناءهم للحفظ والعلم دون أن يذهب أحدهم ليسأل المعلم عن ابنه؛ وذلك لثقته المتناهية بأنه لا حاجة له أن يسأل، فجرَّت العادة على ذلك النحو، حتى بدأت الأجيال الشابة في السنوات الأخيرة في تغيير نمط ودور مجلس أولياء الأمور.

وكَمْ كنتُ مُمتنَّة لزيارة مدرسة عمار بن ياسر ذات الصفوف من الخامس إلى الثامن قبل فترة وجيزة، للوقوف عن قرب على أداء المجيدين من خلال احتفالية جميلة الرسالة، اشترك فيها مجلس الآباء والمدرسة إعدادا وتنفيذا، وتذكَّرت تلك الجملة الفعلية المقتضبة بعدما رأيت ذلك التفاعل الرائع بين البيت والمدرسة، والذي له مفعول السحر؛ فولي الأمر أصبح شريكا رئيسيا في العملية التعليمية، وأصبح يُشارك في جلِّ -إن لم يكن كل- فعاليات المدرسة؛ مما خلق لديه انتماء لتلك المؤسسة التعليمية، وتواءم مع المحيط المدرسي ليصب ذلك كله في قالب التحصيل العلمي للطالب، والتنافس الشريف للإجادة في نفس كل معلم، وقد حازت هذه المدرسة على المراكز الأولى في العديد من المسابقات ﻷعوام متتالية، وإن كنتُ أذكر هذه المدرسة على وجه الخصوص فإنَّني أسوق مثالا واحدا اطَّلعت عليه عن قرب للكثير من مدارسنا الرائدة في السلطنة، وقد أعجبت بفكرة "ساعدني كي أكون مجيدا" والتي أطلقها مجلس أولياء الأمور لتعزيز دافعية الطلاب للإجادة في جميع الجوانب، والتي لا تخلو مناسبة إلا وتضع إدارة المدرسة ذلك الصندوق لسحب الكوبون الرابح للطالب المجيد، وأخذت جدا بتلك الأسرة التي تشرب فيها أصغر أطفالها (الأيهم) عشق شعر الميدان، إلى رب الأسرة، لتصبح أسرة من بنات وأبناء كلهم يحفظون ويقرضون ذلك النوع التراثي الجميل من الشعر؛ فبالرغم من وُجود الألعاب الإلكترونية والأجهزة الذكية والمغريات الكثيرة، لم تتأثر هذه الأسرة إلا بشعر الميدان، فكانت قصيدة فرح بعودة الأب القائد، اشترك في إلقائها أفراد الأسرة، أدمعت عيون الحضور.. ليضربوا مثالا آخر لتوارث الأجيال ومحافظتهم على هذا الثراء الثقافي.

... المدرسة هي البيت الثاني للطالب، ومثلما يقع على عاتق المدرسة العبء في مهمة تعليم الطالب، فإنَّ العبء الأثقل يقع على الأسرة والتنشئة الصحية والصحيحة للطالب، والعلاقة هنا هي أشبه ما تكون بالغرس والمزارع؛ فالشجرة الطيبة تنبت في التربة الصالحة للزراعة، ويأتي المزارع ليقلم تلك الغرسة، ويعتني بها ويهتم بريها وإضفاء المخصبات الجيدة لتكبر وتنمو وتورِّق وتثمر ثمارا طيبة، وكذلك الأسرة توفر التربية والتنشئة السليمة القائمة على أسس دينية ومجتمعية، ويأتي المعلم ليكمل الدور؛ فيُعطي العلم والمعرفة، ويسلح الطالب بما يبقى معه طوال حياته، ولا يمكن أن تكتمل الصورة دون أن يتواجد بها طرفا العلاقة، وإلا لاختل التوازن، وأعطت ثمرة معطوبة أو شجرة مبتورة.

وشاء لي الله -عزَّ وجلَّ- بعدها بأسبوع أن أحضر حفل تكريم المجيدات من طالبات مدرسة سودة أم المؤمنين، والتي رسَّخت مبدأ التكامل بين البيت والمدرسة وأهميته ليكتمل البنيان السليم؛ فالفضائيات غزتْ البيوت، والأجهزة الذكية أصبحتْ في يد الصغير والكبير، وأصبح العالم رهنَ لمسة بسيطة من أصابع الطفل؛ فتماهت الهويات، واختلط الحابل بالنابل؛ فجاءت هذه العلاقة المؤطَّرة بين البيت والمدرسة لتحافظ على هويتنا الدينية والثقافية؛ فأولياء أمور طلاب اليوم، هم أبناء هذه النهضة التي أرسى دعائمها مولاي حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه وحماه وأبقاه- يريدون ﻷبنائهم أفضل مما حصلوا عليه؛ لذلك جاء إحساسهم بأهمية الشراكة التفاعلية مع المدرسة، وأضحى ولي الأمر اليوم يناقش المعلم في أسباب مكامن الإجادة والإخفاق للطالب على حدٍّ سواء؛ وذلك حتى يقول للمعلم: "أسلمك ولدي لتأخذ بيده وتعلمه، ولكن لك عين ولي الأخرى"، وذلك حتى يتشاركا معا في البذل من أجل إعداد جيل قوي يخدم وطنه وأمته، ونحن كأولياء أمور في حاجة ماسة لمتابعة أبنائنا، فما يدور اليوم في العالم الافتراضي من أهوال، كفيلة بأن تدير رؤوس وعقول فلذات أكبادنا، ولن تستطيع المدرسة أن تسد الفجوة وحيدة.

توقيع: "شكرا لكل أم وأب غرسا برعما وأعداه لأرض عمان، وشكرا لكل تربوي ساهم في تنشئة ذلك الغرس فسقاه علما ورواه أخلاقا، والشكر كل الشكر لكل من احتفى بالمقدم الميمون "غرسا طيبا".

تعليق عبر الفيس بوك