المواطنة ترياق الطائفيَّة

حاتم الطائي

تعصفُ رياح الطائفيَّة العَاتية بالعديدِ من دول عالمنا العَرَبي، وتمزِّق مُجتمعاتها على أُسس طائفيَّة، في استدعاءٍ مشوَّه للتاريخ، وبم يُمثِّل لحقبة الحُروب الدينيَّة بأوروبا في القرون الوسطى بَيْن الكاثوليك والبروتستانت، والتي راحَ ضحيَّتها آلافُ البشر؛ ثم تجاوزها ببناءِ الدولة التي تُعامل جَمِيْع مُواطنيها على قدَمِ المساواة في الحقوقِ والواجباتِ عَبْر بناءِ دولةِ القانون.

... إنَّ عاصِفَة الخرابِ الطَّائفي تهدِّد أركانَ المجتمعاتِ في عَالمِنَا العربي، وتؤدِّي إلى دَمَار الأوْطَان التي لطَالَمَا عاشتْ على مَدَى قرونٍ مُنسَجِمَةً مع ذاتها المتعدِّدة.

والمتأمِّلُ في هذا الدَّاء العُضَال، يجدُ أنَّه وليد عقليَّات مَرِيْضَة تستغلُّ الدينَ أبشعَ استغلالٍ لأغراضٍ سياسيَّةٍ، وفي إثارةِ مَشَاعِر النَّاس للتحيُّز لطائفتِهم بشكلٍ أعْمَى، والانحيازُ لمصالح ضيِّقة على حِسَاب مَصْلَحة الوَطَن، غَيْر آبهِيْن لِمَا يُمكن أن ينجُمَ عَنْ ذلك من أضرارٍ بهذهِ المَصْلحة العُليا.

ويَتَنَاسَى أصحابُ العُقوْل المريْضَة أنَّ كلَّ المجتمعاتِ القديْمَة والحديْثَة، لا تخلُو مِنْ تباينٍ على صَعِيْد مُكوِّنَاتِها الطائفيَّة وخلفيَّاتِهَا العِرْقيَّة، إلا أنَّها تجتمعُ على ثوابتٍ مُتوافق عليْهَا لا يُمكن المَسَاس بها؛ ومن أهمِّهَا: احترام الآخر بعيداً عن الإقصاءِ والاستعلاءِ والانفرادِ بالرأي.

يغفلُ هؤلاء حقيْقَة أنَّه في عالمِ اليَوْم لا توْجَد دَوْلة تتسمُ بنقاءٍ خالصٍ؛ سواء عرقيًّا أو طائفيًّا، والدول الحديثة صَنَعَتْ مِنْ هذهِ التعدديَّة عُنصرًا من عَنَاصر القوَّة.

ففي التنوُّع قوَّة ومَنَعة، وكما جاءَ في القرآن الكريم: "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم".

... إنَّ الطائفيِّين، والذين هُمْ -وفقاً للتعريف الحَدِيْث- "أشخاصٌ يتبعون بشكل مُتعنِّت طائفة مُعيَّنة، ويرفضون الطَّوائف الأخرى، ويُصَادرون حقَّها، أو يتعالوْنَ عليْهَا؛ تجاهلا أو تعصُّباً ضدَّها"؛ يتمدَّدوْنَ على اتِّساع وَطَنِنا العَرَبي وعَالمِنَا الإسلامي؛ فالمشهدُ العربيُّ في العديدِ من دِوَله غارقٌ في مُستنقعاتِ الطَّائفيَّة؛ مثل: العراق، وسُوريا، ولبنان، واليمن، وليبيا.. تطفو فيْهِ نباتاتُ الطائفيَّة السَّامَّة، ويقتلُ الناسُ فيها بعْضَهمُ بعضًا على الهُويَّة، بدمٍ باردٍ ونظرةٍ أحاديَّةٍ تُقصي الآخر المختَلِف.

ولنا أنْ تساءلَ: أيُّ مُؤمن هذا الذي يُفجِّر نَفْسَه في مَسْجِدٍ ليقتلَ مئات المصلِّين مِنْ طائفة أخرى؟! وإلى أيْنَ تتَّجه هذه البلدان مع هذا المدِّ التكفيريِّ الذي لا ينبعُ من دِيْن أو يحتَكِمُ إلى مبادئ؟

ليستُ العقول المتحجِّرة وَحْدها هي المسؤولة عن نَشْر الطائفيَّة، بل ثمَّة عوامل أخرى ساهمتْ في إشعالِ حَرِيْقها؛ فالاستعمارُ -وضمن أدواره الخبيثة في الدول المستعْمَرَة- غذَّى النَّعَرات الطائفيَّة، وأضْرَم نيرانَ فتنتها على خلفيَّة شعاره "فرِّق تسُد".. وأيضًا كان لفشلِ الدكتاتوريَّات العَسْكريَّة التي خلَّفتْ الاستعمارَ في حُكْم البلدان العربيَّة والإسلاميَّة، دَوْر في إحداثٍ نقلةٍ نوعيَّةٍ وحضاريَّةٍ في المجْتَمَعَات التي حكمتها لعُقُود، كان لذلك أثرٌ بالغٌ في إذْكَاء وتأجِيْج المشاعر الطائفيَّة في هذه المجتمعات.

وإذا رَبَطْنا ذلك بإقدامِ بَعْض العَسْكر على استخدام الورقة الطائفيَّة للاستمرار في الحُكم بشكل انتهازي على حِسَاب الوطن، نصل إلى الواقع المأساويَِ الذي تعيشه هذه البُلدان حاليًا؛ حيث تفتُّت لبنان والعراق وسوريا في حروبٍ جَرَّاء طائفيَّة هَوْجَاء، مزَّقتْ النسيج الاجتماعي، وعَصَفتْ بالوئام الذي كان سائدًا على مَدَى قرون.

وإذا أخَذْنَا العراقَ نموذجًا، نجدُ أنَّ الاحتلالَ الأمريكيَّ لهذا البلد في العام 2003، لعبَ بخُبْثٍ ودهاءٍ بالورقة الطائفيَّة لتسهيل مُهمَّة المحتل، وحماية مَصَالحه هُناك، وتمَّ من خلال هذه الإستراتيجيَّة نَسْف السِّلم الاجتماعي العِرَاقي؛ ليُفْرِز بَعْدَها الميليشيَّات المسلَّحة بمُخْتَلف ألوانِها وأشكالها؛ لتصلَ ذُرْوَتها بمِيْلاد تنظيم "داعش" قبل عامين، وكلُّ هذا مبنيٌّ على أسسٍ طائفيَّة.

... إنَّ تغذيَة التطرُّف الدينيِّ في المنطقة العربيَّة صناعةٌ تُصْرَف عليها المليارات من الدُّولارات سنويًّا لتمزِّق أوصالَ المجتمعاتِ العربيَّة، فيما يُعْرَف بـ"الفوضى الخلاقة" التي يَشْهَدها عالمُنا العربيُّ من سَيْناء وحتى صَعْدة.

وأرى أنْ لا فِكَاك من هَذِه الأزمة التي تسبَّبت فيها الطائفيَّة سِوَى باعتمادِ النموذج الحديثِ للدَّولة (دولة القانون والمؤسَّسات) الذي يَسْمَح بالاختلاف، ويقومُ على المواطنة وما تعنِيْه من حُقوقٍ وواجباتٍ واضحةٍ؛ باعتبارها المعيار الوحيد للأهليَّة، والضَّمان الوحيد للتقدُّم في دولة المؤسَّسات والقانون، والتي يتَسَاوى الجميعُ فيها، مع عَدَم السَّماح باستغلال الدين في مآرب سياسيَّة.

... إنَّ الدولةَ الحديثة تقفُ على مَسَافةٍ واحدةٍ من جَمِيْع المواطنين، بغضِّ النَّظر عن طوائفهم وأعراقهم. والاختلافُ عِوَضًا عن أنْ يكوْنَ نقمةً هُوَ مِن عناصر قوَّة الدَّولة الحديثة، بعيدًا عن الهُويَّات الأحاديَّة القاتلة.

وفي وَسَط هذا المحيط الذي يعجُّ بأشكال الصِّراع والانقساماتِ الطائفيَّة، ترسُو بلادُنا على شاطئ الانسجام والوئام والمحبَّة.. إنَّه النهجُ العُمانيُّ القائمُ على إرثٍ حضاريٍّ تليدٍ، ومرتكزٍ على التَّسامُح والتعايش.

وهُوَ نهجٌ عزَّزه السُّلطان قابوس بن سعيد بتعْمِيْق ثقافةِ المواطنةِ الحقَّة؛ حيثُ لا تمييزَ بين أفرادِ الشَّعب الواحد، بل يَتَسَاوى الجميعُ ضِمْن دَوْلة القانون، ويتفرَّغ الكلُّ للبناء والتعْمِيْر، بعيدًا عن نيران الفتن وسموم التطرُّف.

... إنَّه نهجٌ جديرٌ بأن نُحافظ عليه، ونَضْمَن دَيْمُوْمَته للأجيال القادمة.

تعليق عبر الفيس بوك