ضوء على الوطن

عهود الأشخرية

شيئان في الدنيا يستحقان المنازعات الكبيرة: "وطن حنون، وامرأة رائعة"، هكذا يبدأ العظيم رسول حمزاتوف تعريفه لأهمية وجود الوطن ويقارنه بوجود امرأة رائعة، ولهذه القضية بالطبع أبعادها الكثيرة، فما هو الوطن الذي نريده نحن؟ بالطبع ليس مجرد كلمة تعلّق في لافتات الشوارع، وتُمجّد في الأخبار اليومية ويُحتفى بها بالكلام الكثير الذي لا ينتهي، والتحايا. لسنا نريد الكلمة التي تعلق في أفواه الكبار ولا نريدها ظلا صغير لأحلامنا، وأوهامنا، ورؤانا؛ لكن تمتد أكثر وأكثر حتى آخر احتواء وبكل ما تعنيه هذه الكلمة.

إن كلمة الوطن كان لها معنى ثابتا على الدوام، أما عنها كشعور إنساني فهي تختلف من شخص لآخر، وربما تتغير مع تغير توجهات الشخص ونمو أفكاره سواء كان هذا التغير بشكل إيجابي أو سلبي. ما أعنيه، أن الوطن من الناحية اللغوية هو المنزل الذي نسكن فيه أو نؤول إليه، هذا المعنى لا يمكن أن يحدد طبيعية العلاقة الكثيرة مع الوطن، إنما فقط أخذ ليس يتبعه عطاء. فمن المفترض ن تكون هنا العلاقة مختلفة تماما، حيث يقول محمد حسن عواد في فكرة الوطن: "العقل فوق الحس، إنك قلت ذاك، فأين ذاك؟ دعني وقم بالواجب الوطني، وابتدار العراك، وابعث خواطرك الصريحة تخترق حجب السكوت، وادع البلاد إلى الحياة
فهل يروقك أن تموت ". قال ذلك وكان يريد أن يسافر أكثر فأكثر بمعنى الوطن، أبعد من نطاق الكلام -على الأقل، حيث يتحرر من الثرثرة لى قداسة المعنى والحب البكر الذي وُلد مع الإنسان، فأي شيء أبلغ من القول (ادع البلاد إلى الحياة) ... وفي الفكرة ذاتها يقول الشاعر محمود درويش: " رويدا رويدا، تفتت وجه المدينة، لم نحول حصاها إلى لغة، لم نسجل شوارعها، لم ندافع عن الباب، لم ينضج الموت فينا"، طلبا منه أن تخلّد معاني الوطن قبل تلاشي الكلام وقبل أن تموت لهفة الحب البعيد إليه. هكذا درويش يكتبنا دائما وكأنه يعرف أننا سنحتاج يوما إلى أن نعود لأغنياته الموزعة على العالم.

الوطن عموما لا يشمله معنى واحد، فهو يتنقل من المسكن والمشاعر إلى طريقة لاكتشاف الذات والروح فيه، فطبيعة الحال لا يمكن أن يكون هذا الوطن عائقا بين الإنسان وبين نفسه، بل هو قالب معين يساعد على أن تقل المسافات بينه وبين ذاته البعيدة ربما أكثر من قدرة الوصول دون وسيط معين.

أمّا عن المعاني الأخرى للوطن فهي تذهب أكثر للعمق أو لأشياء أخرى تحلّ محل الوطن وهذا هذا الإيمان الحقيقي الذي يجب أن نصل إليه في معنى حب الوطن، فعن ابن عربي الذي اتخذ من قلبه وطنا له أو بمعنى أدق ما كان يؤمن به (العقيدة) وبهذا اتخذ له وطنا خاصا به لوحده وهو قلبه ومن أشهر ما قال في ذلك:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي/ إذا لم أجد ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلا كل صورة/ فمرعى لغزلان و دير لرهبان
وبيت لأوثان و كعبـة طائف/ وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أني توجهت/ ركائبه فالحب ديني و إيماني "

(قل لي ما هو الوطن، أقل لك من أنت)، هذه المقولة المعروفة التي تعني بأن تحدد من هو الإنسان عن طريق تعريفه الخاص للوطن لذلك سأذهب إلى تعريف عظيم للوطن لمحمود درويش يقول فيه : "الوطن ليس صنما ليعبد أو يكسر. إنه حقل للعمل، وقابل للمساءلة المتبادلة، بمعيار كمية العمل المبذول فيه، وبمقدار ما يوفر للمواطن من كرامة وحرية. ولعل الاسراف في مديح الوطن، في الوطن، هو شكل من أشكال هجاء الوطن، كما أن الافراط في التذمر من الوطن هو ضرب من ضروب العبودية"، فبذلك يمكن أن نجيب الآن في أنفسنا من هو محمود درويش!
وحب الوطن أو بالأصح الانتماء له سواء كمكان أو كحس روحي هو من الأمور الفطرية التي ولدنا عليها، أفكار معينة كبرت معنا مهما تغيرت ففي النهاية تبقى في نطاق هذه الفطرة، الحاجة إلى الوطن بأي معنًى من المعاني، نحن نحتاج إلى هذا الضوء الذي يأخذنا إلى السلام الروحي والأمان المقدس. ختاما مع نظرتي الخاصة للوطن فهي كلها في هذا المقطع : "هذا الوطن يتدفق من أصواتنا، من رفة العصفور في الفضاء، من رسائل البريد المتأخرة، من مكاتيب العشّاق العاجلة، أنا وإن خرجتُ من الحب، هنا وطني، لن ترحل عني رائحة الأطفال، طائرات الورق، شجرة الليمون، النافذة التي تشرق مع الشّمس... يتسعُ لي، ولك ولأغنية أخرى يتسع الوطن".. فما هي نظرتك أنت؟

Ohood-alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك