الآثار الوخيمة لرفقة السوء

عيسى الرواحي

تحدثت في مقال سابق عن أهمية الصحبة الطيبة، وبيان فضلها العظيم على المجتمع ونفعها الكبير للإنسان في أمر دينه ودنياه؛ مستندا في ذلك على الكتاب المبين والسنة والنبوية، ورغم ما أوردته من دلائل عن فضل الصحبة الطيبة وآثارها المحمودة على الفرد والمجتمع؛ فإنه من الناحية الشرعية لا يوجد دليل واحد يوجب أن يتخذ المرء جليسا صالحا أو ينضم مع صحبة طيبة.
ولكن عند الحديث عن رفقة السوء؛ فإنّ النهي عنها يبدو صريحًا، والتحذير الشديد من أصدقاء الشر يبدو جليا واضحا، ففي الكتاب العزيز يبين الله تعالى أنّ كل صداقة ستنقلب يوم القيامة عداوة عدا صداقة المتقين، يقول الله تعالى: (الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ) سورة الزخرف: 67 ، ويبيّن الله سبحانه وتعالى أن الظالم وهو يعض أصابع الندم يوم القيامة على ما فرط في جنب الله تكون حسرته ولومه نفسه على صحبة صديق السوء الذين أضله وأبعده عن طريق الحق والهداية، يقول تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا* يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا) سورة الفرقان:27- 29.
وكيف لا تنقلب صداقات السوء عداوات يوم القيامة وقد جمعت أصحابها في الدنيا على الضلال والإضلال والغواية وارتكاب الآثام والموبقات والإسراف في المعاصي والذنوب؟! وكيف لا يتحسّر الشقي يوم الفزع الأكبر على صحبة صديق السوء وقد أغواه وأبعده عن الطريق المستقيم وانحرف به إلى سوء المصير؟!
ويبيّن الله تعالى لنا في كتابه العزيز قصّة رجل من أهل الجنة أقسم بالله أنّ قرينه كاد يرديه ويضله ويهلكه بعذاب النار، لولا لطف الله به ورحمته وإنعامه فهداه وأنقذه من النار، يقول الله تعالى عنه: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ* يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ* أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ* قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ* فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ* قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ* وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) سورة الصافات: 51- 57
لقد حذرت الآيات السابقة تحذيرًا شديدًا من صداقات السوء؛ لما ستؤول إليه الأمور من سوء العاقبة والمصير، بل إنّ مصاحبة أهل السوء ومجالستهم وإن لم يقترف معهم جليسهم أي معصية من المعاصي التي يرتكبونها يعتبر مثلهم وشريكًا لهم في الإثم والمعصية في حال أنّه لم يقم بنصحهم ولا زجرهم، ولم يعرض عنهم إنكارًا لفعلهم يقول الله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) سورة النساء: 140، ويؤكّد النبي عليه الصلاة النهي عن صحبة السوء بقوله :"لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي" وقد أوضحنا في مقال (الصحبة الطيبة) الحديث الشريف الذي شبه فيه الرسول عليه الصلاة والسلام الجليس الصالح بحامل المسك، وجليس السوء بنافخ الكير، فشتان شتان بين حامل المسك ونافخ الكير.
وإذا كان الشيطان الرجيم هو العدو المبين للإنسان حيث يقول تعالى: (... إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) سورة يوسف:5 فإنّ خطره على المرء لا يتعدى أكثر من الوسوسة؛ إذ لا يستطيع أن يرغم الإنسان على ارتكاب أي عمل قط (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة إبراهيم: 22، وبالمقابل فإنّ خطر صديق السوء والرفقة غير الصالحة أكثر أثرًا وأكبر ضررًا وأعظم وباء وأشد وبالا على المرء، فصديق السوء لا يتسلح بالوسوسة فحسب، وإنّما لديه من الأسحلة والوسائل من طرق الغواية ما لا تخفى على أحد، وفي هذا يقول الإمام نور الدين السالمي -رحمه الله-:

ويفسد القرين في اليوم كما

قد يفسد اللعين في الشهر أعلما..

وإذا كانت فطرة الإنسان تدفعه إلى اتخاذ صحبة له؛ فليعلم أنّ الوحدة خير له من جليس السوء، كما أنّ الجليس الصالح خير من الوحدة، يقول أحد الشعراء:

إذا لم أجد خلا تقيا فوحدتي

ألذ وأشهى من غوي أعاشره
وأجلس وحدي للعبادة آمنا
أقر لعيني من جليس أحاذره

إنّ قضية الصحبة قضية دين قبل أن تكون قضية دنيا، وصحبة السوء في زماننا هذا قد عظم خطرها وهال خطبها؛ فهي كثيرة الوبال شديدة الأهوال عظيمة المخاطر جسيمة الأضرار؛ إذ ركيزتها المصالح الآنية، والملذات الفانية، والغواية والإضلال، فبها تسقط المروءة والفضيلة والمكانة، ويضيع الدين والأخلاق والأمانة، وتكثر الآثام والمعاصي والخيانة، وتزداد الدناءة والسفاهة والمهانة، ومشهد النهاية في هذه الحياة يلخص لنا الحكاية، فشتان بين وداع صالح يودعه أصحابه الأخيار، ورحيل طالح من بين رفاقه الأشرار، وبعد تلك النهاية ستبدأ بداية لا نهاية لها، وحول تلك البداية يصور لنا الإمام علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه- حقيقة الصحبة صالحة كانت أم غير صالحة: ( خليلان مؤمنان، وخليلان كافران، فمات أحد المؤمنين فقال: يا ربّ إنّ فلانًا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير، وينهاني عن الشرّ ويخبرني أنّي ملاقيك يا ربّ فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني، فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما فيقول: ليثن أحدكما على صاحبه فيقول: يا ربّ إنّه كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير، وينهاني عن الشرّ، ويخبرني أنّي ملاقيك، فيقول: نعم الخليل، ونعم الأخ، ونعم الصاحب! قال: ويموت أحد الكافرين فيقول: يا ربّ إنّ فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالشرّ، وينهاني عن الخير، ويخبرني أنّي غير ملاقيك، فيقول: بئس الأخ، وبئس الخليل، وبئس الصاحب!)
إنّ كل زمان ومكان مليء بأخيار الناس وأشرارهم، ولا يخفى على أحد الجليس الصالح من جليس السوء، كما لا تخفى الصحبة الطيبة من ضدها، والمسلم التقي واللبيب الفطن من صان نفسه عن مواطن الريب ودروب الشقاء والهلاك، وابتعد أيّما ابتعاد عن جلساء السوء ومصاحبتهم، وبقدر ما نحذر من صحبة السوء، فإنّ على المرء أولا أن يهتم بنفسه وألا يكون مصدرا لرفقة السوء، وعنصرا من عناصرها، كما نأمل ونرجو أن ينال أولئك الذين أغواهم الشيطان نصيب من النصح والوعظ والإرشاد من أهل العلم والحكمة والموعظة الحسنة؛ فهم بحاجة إلى من يأخذ بأيديهم نحو الهداية والصلاح، والمجتمع بحاجة إليهم كذلك، وواجب النصح حق من حقوقهم، وفي مقالنا القادم بإذن الله تعالى سنبحث تفصيلا في خطورة رفاق السوء على طلبة المدارس والكليّات... والله المستعان.

issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك