"اليرموك" شاهد وشهيد

فؤاد أبو حجلة

من يعيث قتلا وخرابا في مخيم اليرموك الآن؟

هل هو تنظيم "داعش" أم "جبهة النصرة" أم "أكناف بيت المقدس" وباقي فصائل الإرهاب الجهادي أو الجهاد الإرهابي؟

هل هو النظام السوري أم محالفوه من الفصائل الفلسطينية المستظلة بأكذوبة الممانعة والمقاومة؟ في الواقع هم كل هؤلاء. وليس في المخيم من يريد أيا من هؤلاء القتلة والسفاحين، وليس من أهل المخيم من يريد التورط في المواجهات بين الأشقياء في المعسكرين المتآمرين على سوريا وعلى السوريين. في السنوات الأربع الماضية، ومنذ بداية المواجهة بين معسكري الشر في سوريا جهد اليرموك، كما باقي المخيمات الفلسطينية المقامة على الأرض السورية، في تجنب الاصطفاف مع أي من الطرفين، لكن هذا الحياد لم يكن مقبولا لدى سلطات الحكم القمعي في دمشق ولا سدنة الإرهاب الظلامي الخارجين من حلقات الضلال في القاعدة وداعش والنصرة والفصائل المصنعة أمريكيا والمدعومة إقليميا وعالميا، والمباركة بفتاوى الإخوان المسلمين.

لذا تم الزج باليرموك في أتون هذه الحرب الغبية، وتبادل الطرفان قصف المخيم وإحراق بيوته وترابه وقلوب أهله في لعبة شيطانية يسيل فيها الدم الفلسطيني بعيدا عن فلسطين.

"ربيع العرب" للعرب.. لم يكن شأنا فلسطينيا، ولا ينبغي أن يكون، لأن الفلسطينيين يعرفون كيف يصنعون ربيعهم، وقد فعلوا ذلك مرتين في انتفاضتين شعبيتين ضد الاحتلال الاسرائيلي عدوهم الرئيس والأوحد، وإن اختلف العرب على ذلك، وإن لم تنسجم السلطتان الحاكمتان في رام الله وغزة مع هذه القناعة الراسخة في الوجدان الجمعي الفلسطيني.

لا يجرؤ أحد في "اليرموك" أو في رام الله أو في غزة أن يقدم "الجهاد في الشام" على "الجهاد في فلسطين" ولا يتورط أحد في المحتل من الأرض أو المحروق من أرض الشتات على تقديم "النضال لدعم الممانعة" على النضال ضد الاحتلال. لكن الذين لا أجندة فلسطينية لهم يتوزعون بين "الجهاد ضد النظام" و"النضال لدعم صمود النظام"، وهم في الحالتين ينفذون أجندة اسرائيلية مدعومة أمريكيا.

مخيم اليرموك يسدد الآن بالدم فواتير الجاهلية السياسية العربية التي تستحضر الأوس والخزرج والجاهلية الاجتماعية التي تحيي داحس والغبراء. وهو كما كل مخيمات اللجوء الفلسطيني يتحول إلى مشجب يعلق عليه فشل العرب في تأسيس الدولة العصرية الناهضة المكتفية، ويتحمل شرور الولاءات التائهة بين واشنطن وطهران.

كان الفلسطينيون وقضيتهم، في الخطاب العربي الممل طيلة العقود الستة الماضية، سبب التخلف والجهل والفقر في الدول العربية، وسبب القمع وانتفاء الحريات السياسية والفكرية في دول كانت تقول إنها في حالة حرب مع عدو الأمة، رغم أن هذه الحرب لم تقع إطلاقا إلا حين شنها العدو على الأمة واحتل ما تبقى من فلسطين، ثم كانت المناورة العسكرية التي سميت حربا أصرت دمشق على أنها حرب تحرير ثم تبين أنها كانت مناورة لتحريك عملية التسوية مع اسرائيل وإخراجها من تحت الطاولة إلى فوقها.

واليوم تعود دمشق وبلسان بثينة شعبان إلى تحميل المخيمات الفلسطينية مسؤولية الخراب في الشام، بينما يواصل إرهابيو أبو بكر البغدادي العبث في أرواح أهل المخيم.

في سوريا الآن أقل من أربعمائة ألف لاجيء فلسطيني، منهم عشرون ألفا فقط في مخيم اليرموك، ويبدو أن هناك تواطؤا بين النظام القمعي ومعارضته المتخلفة لتحميل هؤلاء مسؤولية الحرب الدائرة هناك بين الغلط.. والغلط.

مر الفلسطينيون بهذه التجربة المرة في لبنان، وقد كان النظام السوري لاعبا أساسيا في الساحة اللبنانية التي كانت مفتوحة لكل الاختراقات. ومن عاش الحرب اللبنانية أو عاش في زمانها يذكر انحياز النظام "التقدمي" في دمشق إلى القوى اليمينية الانعزالية التي كانت تتلقى الدعم المباشر من أكثر من طرف عربي للقضاء على المقاومة الفلسطينية والقوى التقدمية اللبنانية. ولعل ما يجري في اليرموك الآن يستحضر مشهد تل الزعتر.

لم يكن الفلسطينيون في لبنان طرفا في الصراع بين الطوائف السياسية، لكنهم دفعوا ثمن حروبها، وليس الفلسطينيون في سوريا الآن طرفا في الحروب الغبية بين الطوائف السياسية لكنهم، وهم المحرومون من الاقتراب من حدود وطنهم يضطرون الآن للموت بعيدا عن هذه الحدود وبسلاح مشبوه يجيء من كل جهات الأرض.

إنه قدر الفلسطيني في زمن الجاهلية العربية في الألفية الثالثة.

تعليق عبر الفيس بوك