حكاية حنظلة!

سلطان بن خميس الخروصي

بين أكوام الرّكام المنسدل على أكتاف الحياة البهيّة، هناك في زاوية موغلة البعد في ناظريها وكأنها سراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء، تهاوى (حنظلة) في مقدمه نحو حيّه المتهالك من سطوة العوز وشطحات المنظّرين المتهالكة، فذاك (مصطفى) ينادي بجنّة الشيوعية التي يرى أنّها الملاذ الوحيد لأن تعيد بريق الحياة والوجود لسكان الحيّ، وذاك (محمد) يبيع ويشتري أقوال فقهاء وعلماء في إحلال دم قوم على آخرين، وذاك (عبدالله) يفاخر بالقومية العربية فيتوشّح على بقايا جدران (كوخه) صور جمال عبدالناصر وحافظ الأسد وأحمد عرابي والشريف حسين ومعمر القذافي وصدام حسين وغيرهم ممن أسمعونا ضجيجا ولم نر منهم طحينا!، ولا ينسى حنظلة (أم السعود) التي فارقها السعد ولم يبق على محيّاها إلا أكوام من البؤس والشقاء؛ فكلما مر عليها وجدها تسقي قبورا بلا هوية وتصفصف دموعها وآهاتها وهي تتلو قولا أثر عن نبيها الكريم ".. دم المؤمن على المؤمن حرام"، "خافوا الله يا ناس، ما بدنا ثورات ولا تنمية ولا زقوم، بدنا نعيش حالنا كحال العالم".

ما أقبح التناقضات حينما تغتال أرواح من لم يفقهوا في المصالح النتنة ولا المآرب السقيمة الموجّهة، هو هكذا القدر حينما يكون أمر الله نافذا فلا راد له، لكن هل القدر هو ما يسوق بني آدام في أن يتلذّذ بالقتل تجاه بني جنسه - يتساءل حنظلة-؟ وفي غمرة تفكير عميق وموحش لفكره وقلبه العذري فاجأه (عبدالله) بالتحية والذي طالما جعل من القومية العربية قرآنا يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، فلا يرى في خلاص الأمة العربية إلا برجوعها قيد أنملة نحو المنطلقات والثوابت والأطر المرجعيّة الحقيقية للبيت العروبي الأصيل، بدا حنظلة غاضبا من ثرثرة جاره حينما انهمر عليه يمطره بإنجازات روّاد القومية العربية وكيف يمكن أن تكون بمثابة القشّة الأخيرة قبل غرقنا في الوحل، وفي لحظة انكسار وبؤس بادره حنظلة بقوله:

- أيّ قومية عربية تحدثني عنها؟ فلم تسعف تلك النعرات العقيمة جراحات الناس ومآسيهم الوخيمة.

- ليس ما تقوله صوابا يا حنظلة! فمثل هذا القول لا يتفوّه به إلا من تعرّى عن مصلحة الأمة، وتشدّق بالغرب وعلوجه الفكرية والأيديولوجية، والتاريخ العربي زاخر بنماذج رائدة تروي ملحمة العطاء القومي العروبي الذي هزّ عروش طغاة وغزاة لم يرقبوا في الناس إلاّ كقطعان تساق في ميزان صرافة البنك.

- وكأنك تجلد بسياطك فكرة الرأسمالية يا عبدالله! طيب.. دعنا نكون واقعيين ولا نحرّف الكلم عن مواضعه ولا نأوّل الأحداث والحقائق وفق أهوائنا ومصالحنا (بدأت ملامح عبدالله تتهلّل لنقاش حامي الوطيس)، هلا أتحفتني بإنجازات الثورات العربية وما أفرزته من نماء وازدهار وتطور لمؤسسات الدولة الحديثة التي من المفترض أن نلامس نتاجها الحضاري والاقتصادي والسياسي الآن؟

- يا سيدي الحديث ذو شجون ولا أعرف من أين أبدأ وإلى أين انتهي، لكن على سبيل المثال هل يمكنك أن تنكر ثورة أحمد عرابي ضد المستعمر الإنجليزي في 1981م؟ وقبلها ثورة الشريف حسين ضد الاستعمار العثماني في 1916م؟ وهل يمكن أن تنكر الدور القومي العربي المشهود للرئيس الراحل جمال عبدالناصر في الوحدة العربية المصرية السورية 1958م؟ ثمّ لماذا تعمي عينيك عمّا يقوم به حزب البعث العربي القومي في سورية أو ممن ينتسبون إليه في العراق للذّود عن حياض الأمّة من الغزاة والمرتزقة وعبّاد المال؟!

- أتفق معك في كثير مما ورد أنّ الفكر القومي وأدبياته (النظرية) تعد إنجازًا حضاريًا رائدا لو طبّقت بحذافيرها لعاش الناس في سخاء ورخاء، لكن ألا تلحظ أنك تسمل عينيك وتصمّ أذنيك ولا ينطق لسانك بالواقع الحقيقي الذي يعيشه رهبان القومية العربية؟ ألا تعلم أنّ هناك دينا أنزله الله على نبي اسمه (محمد) وهو من أشرف وأجلّ قبائل وأنساب العرب وقد فاخر العالم بذلك لكنه حكم فعدل فأمن فأحبه الناس؟ ألا تتفق معي أنّ أغلب من توشّحوا بأدبيات النهضة القومية العربية حادوا عن جادة الصواب فأوغلوا بذلّ الناس واستعبادهم وشقّ صفوف الأمّة بتحزّبات ومذاهب ونعرات مقيتة؛ ليوقدوا الحروب والحميّة حتى يكونوا كالربّ الأوحد في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟ إنّ من أهم ما نادت بها القومية العربية هو العدل الاجتماعي والذّود عن حياض العربي أينما كان واحترام الأقليات التي تعيش بأمن وسلام في كنف الدولة العربية، فلماذا يباد أكثر من (5000) مدني ويصاب أكثر من (7000) آخرين بالسلاح النووي العربي في حادثة حلبجة في 1988م؟ ولماذا تزهق حياة أكثر من (40000)- حسب تقرير الأمم المتحدة- من غير (15000) مفقود ونزوح أكثر من (100000) مواطن من حماة في مجزرة بطلها حافظ الأسد في 1882؟ وعن أيّ قومية عربية تحدثني حينما تتصفّح صور(1269) منكوبًا من سجن أبو سليم في ليبيا والذين تمّ ذبحهم كالخرفان في 1996م؟ ناهيك عما تشهده حواضن القومية العربية اليوم من أمطار البراميل المتفجرة، والغازات السامة، والمواد الكيمياوية، علاوة على التخلّف الاقتصادي والسياسي وغياب العدالة الاجتماعية وتقهقر في التعليم واضمحلال في التنمية وانعدام للابتكارات والتصنيع؟!

- أنت ظالم يا حنظلة.. ولم تقرأ التاريخ العربي؛ لذلك تملك هذه الصورة السوداوية التي أراد أعداء الأمة العربية غرسها في المرجفين والضعفاء أمثالك، إنك تنسلخ من أصلك وثوابتك وقيمك النبيلة، أنت تعلم علم اليقين أنّ الأحداث التي ذكرتها كانت تسبقها حيثيات وتفاصيل دفعت الحكومات العربية بأن تتعامل معها بما يخدم مصالح الأمة (يقولها بغضب).

- تتعامل معها بالإبادة والفناء؟! (يستغرب حنظلة).

- ثم لماذا هربت عن الحديث عن الثورات التي ذكرتها سابقا؟ (يبدو على وجه عبدالله وكأنه قد أوقع حنظلة في مأزق).

- لم أهرب وإنما أوجزت لك أنني أتفق معك في كثير مما ورد ولكني تساءلت عن المحصّلة والنهائية، فأنا لا أختلف معك أنّ الثوابت القوميّة إن استغلّت للوحدة والتآصر والتنمية فهي مرحب بها ولكن إن استغلت كما هو واقعنا المخيّب فلا يرتجى منها مبتغا نبيلا، وبما أنك تصّر على نماذج الإنجازات القوميّة العربية في سيرورة التاريخ فدعنا نناقشها بالحقائق والنتائج (يصلب حنظلة ظهره بعدما كان متكئا).

- تفضل يا باشا كلي آذان صاغية (رمش عبدالله حنظلة بترقب وغضب).

- أنت تعلم أنّ ثورة عرابي كانت دوافعها تحررية صرفة بعيدة عن الشعارات القومية العروبيّة، وأنّ أغلب الضباط الذين كانوا يتحلّقون حوله من مختلف المشارب العرقية والدينية والمذهبية التي كانت رافضة للاحتلال الإنجليزي، بل إنّ أهمّ ما ورد في عريضته التي رفعها للخديوي توفيق هو تشكيل مجلس نيابي كتطبيق لمؤسسات الدولة المستقلة، وتحقيق العدالة الاجتماعية بين جميع المجنّدين والضباط دون النظر للعرق أو المذهب وذلك ما دعا له الإسلام الحنيف، وفي الوحدة العربية المصرية السورية الكل أجمع أنّ هذا إنجاز عربي وحدوي أصيل سيحقق مصالح جمّة للطرفين لكن الهدف الأسمى من ذلك كان لتكوين جبهة مضادة وتحقيق توزان القوى مع الكيان الصهيوني، إلا أنّ من أهم أسباب انفصال هذا النسيج الوحدوي هو رفض عبد الناصر نموذج التعددية السياسية التي كانت كظاهرة صحيّة تتمتع بها سورية، وكنتيجة مؤلمة لهذا الانفصال كانت سورية ومناطق أخرى في بلاد الشام لقمة سائغة لإسرائيل، وحول ثورة الشريف حسين أتساءل لماذا القوميون العرب يعتبرون أنّ الخلافة العثمانية هي احتلال؟ أنا أتفق معك أنّ العثمانيين أوغلوا في استغلال الشعوب العربية - حسب ما تذكره المصادر- كما تفننوا في تعذيبهم للتوافق مع سياسات الباب العالي، لكن هل القيادات الثورية العربية آنذاك كانت على درجة من الوعي بثقافة التحرر؟ ثم ألا يعدّ التواطؤ مع الإنجليز خرقا للثوابت القومية العربية التي طالما أزكمت أنوفنا والتي تعتبر الأمر (خيانة)؟!، وأخيرًا ما هي النتائج المصيرية المثمرة التي زفّتها لنا هذه الثورة إلا وعد بلفور وأخواته؟!

- الحديث معك ضرب من الجنون وأنت شخص ميؤوس منه (يخاطبه بسخط وضجر ثم يقفل راجعا إلى كوخه وهو يغني):

بلاد العرب أوطان

من الشّام لبغدان

ومن نجد إلى يمن

إلى مصر فتطوان

- استصرخه حنظلة: "ارحمونا من أوهامكم وظلماتكم فقد أهلكتم الحرث والنسل، واشتكى من منكم البشر والحجر والمدر والشجر، نحن معكم إن كان في سعيكم خدمة وطنكم ومواطنيكم لكن يجب أن تعاقبوا المسيء فلا تجعلوه نبيّا منزّها؛ فأرواح الناس ليست لعبة شطرنج تلعبون بها حسب أهواكم، لا تغرّنّكم تشدق بعض قياداتكم بثوابت القومية العربية النبيلة حينما يوغل في تحقيق مآربه السمجة ومصالحه النتنة، اجعلوا العالم يشير إلى وحدتكم وعدلكم وإصراركم في تنمية الأوطان، أخرسوا صوت الرصاص وأزيحوا عن أنوفكم رائحة البارود (حتى إذا بدا عبدالله وكأنّه شبح لم يكن)، أطبق على نفسه الهدوء وقفل راجعًا إلى كوخه المتوشّح ببعض من بقايا عظام باليه، وشذر من أنصاف أرواح بائسة، وفي طريق عودته مرّ على (أم السعود) والتي لا تبرح من مكانها وهي تندب حظها وتهلوس بما يهلوس به حال العرب.

- sultankamis@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك