السارد العظيم إيتالو كالفينو

ليلى البلوشي

في رسالة بعثها الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو، إلى صديقه الروائي الإيطالي ميكيلي المعروف بروايته "منغوليا على خطى ماركو بولو"، ما يُميِّز هذه الرسالة القصيرة هو الحديث الموجز والعميق في آن عن كيفية كتابة رواية وقصة قصيرة ومقالة؛ فالروائي الإيطالي إيتالو كالفينو في بداية الرسالة نراه يبدي نوعا من الحسد على سبيل المزاح لصديقه الروائي الإيطالي؛ لأنه يعلم جيدا أنه يقضي جل وقته في كتابة أطنان من الروايات المحبوكة حول موضوعات شتى بينما يُبدِّد هو وقته؛ فقد كان يأمل أن يجمع قصصه القصيرة التي كتبها في وقت ما في كتاب قصير، لطيف وأنيق ومرتب كما يعبر، غير أن صديقه الشاعر والروائي والناقد الإيطالي تشيزاري بافيزي -أهم الأدباء الإيطاليين في القرن العشرين- رفض الفكرة، موضحا له -ربما بنزعة نقدية- أنَّ القصص القصيرة لا تباع، وأن عليه أن يكتب رواية، غير أن كالفينو أباح لصديقه في الرسالة بأنه مُستعد كي يقضي حياته جلها في كتابة القصص، موضحا في اعترافه بميزة كتابة القصص القصيرة، وكأنه يغازلها في قصيدة مُنمَّقة: لا أشعر الآن بضرورة ملحة لكتابة رواية، أستطيع كتابة القصص القصيرة لبقية حياتي، قصصا لطيفة مُقتضبة بحيث تستطيع أن تنهيها بمجرد أن تبدأ بكتابتها، قصصا تكتبها وتقرأها دون أخذ استراحة، مستديرة وكاملة كالبيض، قصصا إن أضفت أو حذفت منها كلمة واحدة يتفكك النص كله.

وحين يكتفي من تبيان وجهة نظره في كتابة القصة القصيرة وميزتها الجمالية ككاتب عاشق لكتابة القصص القصيرة نراه في المقطع الآخر من الرسالة نفسها يفرد حديثا شخصيا عن رأيه في الرواية وكتابتها.. موضحا من خلالها الجهد الذي يبذله ككاتب كي يكتب رواية، كتابة مشوبة بعاطفة متوترة: أما فيما يتعلق بالرواية، فدوما ما تحتوي على لحظات ميتة، على أجزاء حيث تربط مقطعا بآخر، شخصيات تشعر بأنها ليست مكتملة تماما، تتطلب الرواية مقاربة مختلفة، أكثر استرخاء ولا تتطلب أن تتوقف عن التنفس وأسنانك تصّر مثلما أفعل حين أكتب، أكتب وأنا أقضم أظافري.

ثم يبعُد عن نفسه تهمة خُمول أفكاره الروائية في رأسه، بل يُقر بأنَّ رأسه يفيض بأفكار روايات، حتى إنَّه يستطيع أن يكتب عشر روايات، غير أن ما يُربكه حول مسألة كتابة رواية هو أنه يستطيع التنبؤ بالروايات الفظيعة حول الأفكار الروائية التي سيكتب عنها؛ حيث لديه أفكار نقدية ونظرية متكاملة حول الرواية وهذا ما يربكه حين يعزم بكتابتها!

وتتجلَّى تلك الربكة في كتابة رواية عند إيتالو كالفينو حين يُخبر صديقه بأنه يكتب حاليا رواية مثله مثل بقية أصدقائه الروائيين والروائيات، شارحا له الصعوبات التي يواجهها ككاتب رواية تظهر في الوقت نفسه مدى دقته وجديته في مشروعه الروائي، وهي درس لكل من يستسهل كتابة الرواية في وقتنا الحاضر: الأبله المعتوه نيكوسيا يكتب رواية جيدة حول الانفصاليين الصقليين، ستكون رواية ناجحة؛ إذ لديه أسلوب خاص وجديد، ناتاليا أيضا تكتب رواية، شأنها شأن بافيزي، أنا أيضا بدأت بكتابة رواية: كتبت أربع صفحات في أسبوع، تمضي الأسابيع دون أن أستطيع إضافة فاصلة إلى الجملة، تنقضي أيام وأنا أتساءل ما إذا كانت مفردة تصعد أنسب من مفردة ترتقي في تلك الجملة.

وبعد أن يسرد لصديقه الروائي ميزة كتابة القصص القصيرة والوقت الذي يستغرقه في كتابة الروايات، يتحدَّث عن المقالات الأسبوعية وما يحتاجه كاتب المقالات: أضف إلى ذلك، أنه يتوجب علي كتابة مقالات وهذا يقتلني، الجميع يطلب مقالات وأنا أكتبها؛ لأن كتابة مقال تستغرق نصف ساعة، كتابة مقال وليس إعداد المقال، فإعداد المقال يتطلب أن تقرأ كتبا، أن تجد أفكارا وأن تشمّر ساعديك، علاوة على ذلك، أنا من ذاك النوع الذي ينتقل من قمة السطحية إلى قمة الدقة خلال لحظة.

وفي الرسالة العميقة نفسها، يضع أنموذجا عن كيفية الإعداد لكتابة مقالة، فلا تكمن صعوبة المقالة في تحريرها من الرأس ساعة الكتابة، بل أثناء اختيار الفكرة المناسبة، وأثناء القراءة عن تلك الفكرة، والتي قد تستغرق أسابيع؛ كي تتأكد من ثلاث كلمات فحسب عن الكاتب الذي تكتب عنه.

هذا الشرح المسهب يُظهر شخصية إيتالو كالفينو ككاتب قصة ورواية ومقال وتحقيقات صحفية أيضا، تؤكد للقارئ بأنه كاتب جاد في مشروعه الكتابي، كاتب يتحرى الدقة في كل كلمة يكتبها، بل كل كلمة لديه تخضع لجلسات من التحقيق والتأمل والرجوع للمعاجم والقواميس وقراءة كميات هائلة من الكتب، ليقدم للقارئ مادة كتابية كثيفة الإبداع، وكل من قرأ لإيتالو كالفينو يُدرك حجم الدهشات التي تحتويها كتاباته، كثافة الأخيلة، وسعة الجهد المبذول في مطاردة الحكايات بفراسة واعية.

ومن لم يقرأ بعد لإيتالو كالفينو عسى أن تكون هذه المقالة التي شرّحته داخليا ككاتب متعدد المواهب في شتى أجناس الأدب أن تغريه لخوض عوالمه الساحرة بحق.

Ghima333@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك