فلنجعل من الوطن حزبا لا من الحزب وطنا

علي المعشني

أجبرنا الرَّبيع المشؤوم على أن نقلِّب الرأي في كلِّ ما حولنا من قناعاتٍ ونُظمٍ وسياسات وتشريعات، وهو من باب "رُبَّ ضارة نافعة"، وعمل في الكثير -وأنا منهم- "ردة" فكرية في جُملة من القناعات والأفكار التي حملناها واعتقدنا جدواها ونفعها لزمن ليس بقصير، وجعلتْ الكثيرَ منا يُراجعون تلك التراكمات والقناعات والتجارب، والعودة إلى النشأة الأولى لها، وما أحدثته على الواقع من نتائج إيجابية ومكاسب حقيقية للشعوب والأوطان في الوطن العربي.

بقينا لعقودٍ -كنخب وعوام- نردِّد كالببغاوات: الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحريات، والعدالة الاجتماعية.. دُوْن وَعْي حقيقي بتلك الأدوات والمكاسب الإنسانية، ودُوْن تحديدِ ماهيتها وأهميتها وتوقيتها للشعوب، وهل هي حاجاتٌ تنبعُ من عُمق المجتمعات وحراكها ووعيها ونسيج موروثها وقيمها، أم تُستورد جاهزة ومُعلَّبة من الخارج، وتُنشر بين الناس في أي وقت وزمان؟!

وبالنتيجة، تجاسرَ مَنْ تجاسر على الأمة وثوابتها وموروثاتها، كونها ليست ديمقراطية وليس بها حرية ولا عدالة اجتماعية، في تجلٍّ واضحٍ لحضور الانبهار الغربي، ومحاكاته وتقليده بلا وعي ولا تفكير ولا منطق. وفي المقابل أيضًا، التجاسر على نُظم الحكم ثم الأوطان بدواعي التغيير والتطوير، وصولًا إلى الربيع وفصوله البائسة والمدمرة بتلك المزاعم البراقة كذلك.

ومن أهم تلك الدعوات التي تناسلتها العُقول العربية المعاصرة: التجربة الحزبية، وضرورة وجودها لضمان المشاركة الشعبية في الحكم، والارتقاء بمفهوم الدولة العصرية وتعميقه. وقواعد السياسة تقول: إنَّ الوضعَ الأمثل لكلِّ شعب يتوقف على وحدته الحقيقية، والوحدة الحقيقية تحتاج إلى:

1- وحدة الهدف: وكمال هذا العنصر يتوقَّف على شمولية هذا الهدف، وقدرته على التعبير عن أهداف كلِّ فرد، وتغطية كل أهداف الأفراد.

2- وحدة الوسائل أو الوسيلة: أنْ تكون هنالك وسائل محدَّدة ومُسلَّم يقينيًا بصحتها وسلامتها لبلوغ هذا الهدف العام الشامل، القادر على تغطية حاجات الأفراد.

3- وُجود سُلطة مُعبِّرة عن الشعب: وناتجة عن مشيئته تؤمن بهذا الهدف الكلي، وتقتنع به، وتؤمن بأن هذه الوسائل هي بالذات الموصلة لهذا الهدف.

4- وُجود عقيدة سياسية معينة: يرجع لها الفرد، ويرجع لها الشعب، وترجع لها السلطة؛ ليستمدوا منها جميعًا الشرعية والمشروعية.

فمادام هنالك حالة توافق وانسجام بين الهدف وبين الوسيلة، وبين السلطة وبين الشعب، فإنَّ الأمورَ تكون مُستقرَّة بنسبة كمال تلك العقيدة، وبنسبة قدرة الأفراد والشعب والسلطة على تجسيد الهدف من خلال الوسائل؛ وبالتالي فإن فكرة التحزب تنتفي؛ حيث يُصبح الجميع -الفرد، والشعب، والسلطة- حزبًا واحدًا يسعى لتحقيق الهدف الواحد، وبالأسلوب المحدد الواحد، ووفق قناعاتهم الواحدة بالعقيدة السياسية الواحدة.

وما يبدو خلافًا في هكذا مُجتمع هو مُجرَّد اختلاف بوجهات النظر سرعان ما يزول، وتستتب الوحدة، وتنتفي الحاجة للتحزب (*).

فالتجربة الحزبية في الوطن العربي، ليست وليدة اليوم، بل تمتد إلى ما يفوق قرنًا من الزمان، وفوق هذا لم تُقدِّم شيئًا لأوطانها سوى التنابز السياسي والزبونية، وتشقق المجتمعات وتصدُّع الأوطان وتماسك الدول والارتهان والتبعية للخارج، فقد استنزفت كثيرًا طاقات بلدانها المادية والفكرية وأوصلتها إلى حافة التناحر والإفلاس.

وسرُّ هذه الأحزاب وإفلاسها في الوطن العربي، أنَّها بُنيت وتأسَّست على عقائد لا على برامج تنموية، كما هي الحال في الغرب. ومن هُنا، أتى التمزُّق والتشرذم بداخل الوطن الواحد، ما بين يساري ويميني وقومي وإسلامي....إلخ. بينما حسم من سبقنا هذا السجال العقيم المتوقع، والمهدر للطاقات والمعيق للتطلعات، وجعل من العقائد ثوابت لا مساس بها ولا مزايدة عليها، وجعل الأحزاب تتبارى وتتصارع على البرامج التنموية لبلدانها، فتزاحمت العقول ليُولد الصواب، وساد الوئام تلك الشعوب وسارت أوطانهم نحو المجد بُخطى ثابتة لا تتزعزع.

ومن هنا نقول: إذا كان القصد من تجربة الأحزاب تحقيق المشاركة الشعبية والتنمية الفاعلة ولحمة الوطن؛ فهناك نماذج وخطوات كثيرة لتحقيق ذلك، وبوسائل تنبع من حاجات المجتمع ومن نسيج قيمه وأخلاقه، وبما يسدُّ باب الذرائع، ويقينا من بوار الاستيراد وتداعياته الخطيرة على الدول.

فتجربة الصين مثلًا، أخرجتْ عملاقًا اقتصاديًا عالميًا، ودون الحاجة إلى استيراد "ديمقراطية"، ولا أيٍّ من أدواتها. والتجربة الماليزية أوجدتْ طفرة تنموية دون الحاجة إلى استيراد تجارب للمشاركة الشعبية، وتحقيق العقيدة الواحدة للدولة، والتي التفَّ حولها الفرد والشعب والسلطة.

وهُناك الكثير من نظريات الحكم والتنمية في العالم التي نَسَجها كلُّ شعبٍ حيٍّ ودولة حيوية وفق حاجته ومُتطلباته لتحقيق الحكم الرشيد، دُوْن الحاجة إلى الإبهار الصوتي أو الانبهار الفكري بالآخر، وحقَّقت النتائج المرجوَّة على الأرض دون طقوس أو مراسم، وجعلت من الوطن حزبًا حقيقيًّا يستوعبُ الجميعَ ويُؤمنون بعقيدته ووحدته ومصيره.

قبل اللقاء: الغرب لا يُصدِّر لنا إلا كل تالف وكاسد لديه، وما السُّعار الذي رافق الربيع المشؤوم من أسطوانات مشروخة، ووعود فردوسية مُخدِّرة للشعوب البائسة إلا أفخاخ رذيلة فكرية وقيود تخلف حريرية، بحجج ألحن وبأفكار بطعم الأفيون... وبالشكر تدوم النعم!

(*) باختصار من كتاب "مرتكزات الفكر السياسي"، للمؤلف أحمد حسين يعقوب المحامي.

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك