عادي جدا

جمال القيسي

كل ما يحدث، اليوم، على الساحة العربية صار عاديا، وللدقة والتحري الجدي حول أثر هذه الأحداث علينا، وقعت العقول، لدينا، وانشغلت، بحكم التفكير بصوت عال، بلعبة المفاضلة العربية المعتادة في صياغة العبارة البلاغية الأوقع في النفس لتوصيف ما يجري؛ هل من البلاغة أن نقول إنّ ما يقع "عادي جدا" أم أن الفصاحة تقتضي وصفه بـ "أقل من عادي"!

لعبة جميلة جدا من الخراب بالنزوع شوقا إلى عصور الإطناب والسجع والتصغير والجناس، واستجلاب كل ذلك المخزون اللفظي كي يكون معينا لنا على التعبير عن مآسينا التي صارت كوارث كونية. ويبدو أنه لا ينقصنا سوى الشكل اللغوي لتوضيح ردود أفعالنا على ما نحن فيه من هوان. هل هذا السقوط في فخ عشق اللغة عادي جدًا أم أقل من عادي!؟

"لك عندي كلام أحلى من أجمل رواية"!

هل الظواهر الصوتية بدأت بالتفسخ، يا للخسارات يا سادة، على زمن كنا فيه ظاهرة صوتية، على الأقل كنا ظاهرة تحظى بالاعتراف التاريخي بكينونتها وأسباب تشكلها، لا بل وسيرورتها، إن كان ظل ما يمكن أن تسير نحوه. ومن الطبيعي جدا في ظل هذه الحقبة المرعبة المظلمة، أننا صرنا نستبدل التسميات تدريجيا بحكم الصراحة مع أنفسنا طبعا؛ فمن مفهوم الوطن العربي الكبير إلى مصطلح الوطن العربي، ثم الوصول إلى مرحلة وصف هذا الوطن بـ العالم العربي، وأخيرا، وليس آخرا، الاتفاق على لفظة الساحة العربية، يا لطيبة قلوبكم يا أساتذتنا في المراحل المدرسية الأولى!

وبما أن أوصافنا صارت تتضاءل، فلابد أن سلوكياتنا باتت تتقزم لتتناسب مع حيازتنا على هذه الألقاب البطولية في التضاؤل. ومن أبرز هذه السلوكيات البائسة، أن المجازر ومشاهد الذبح صارت عادية جدا أو أقل من عادية! كما أن التعبير عن صدى هذه الدموية في نفوسنا، لم يعد ينهض كي يوازي التشكي من مغص بسيط! كيف لا وقد صرنا نقول صدى هذه الكوارث بعد أن كان أقل ما يمكن قوله للمحتل: "الغضب الساطع آت".. غضب وساطع. لا بأس ولو مجازا!

والحقيقة أنه ما من سبيل، والضوء الذي في نهاية النفق انطفأ؛ لأن النفق ذاته انهار. وها نحن تحت أنقاض النفق المظلم، مات من مات، ويتنفس البعض أنينا، وآخر يئن ندما، ولكن الجميع في عداد الهالكين، إلا.. إلا إذا وقعت المعجزة، ولكن حتى البسطاء (أي جميعنا) الذين لا يفقهون معنى المعجزة، يقولون إن عصر المعجزات انتهى، ولم يعد يطالب بها، وكان آخر من عبر عن الرغبة بوقوع المعجزة الراحلة وردة الجزائرية حين ظلت تنادي: "أنا عايزة معجزة"!

نضحك مما يوجب علينا البكاء. لا بأس، فركام النفق يكتم الأنفاس، ووقر في نفوسنا اليقين أنها ابتسامة الزمن الأخيرة، وعلينا أن نرد الابتسامة بخير منها؛ لذا نضحك في وجه الزمن، وهو خير منا حيث بادرنا بالسلام والابتسام.

ومنذ زمن ليس ببعيد، ونحن نرد الابتسام للزمن بالضحك، أو نبتسم حين تضحك من جهلنا الأمم، وغالبا يقع لنا ما لا يفهمه أحد، ولا يقع لأحد. فقد أعلن الرئيس العراقي "استعادة" المحافظة التاسعة عشرة، مجتاحا الجار التاريخي، ذات صبيحة قائظة من آب مجنون؛ فمات من مات. ولجأ من لجأ!؛ فعصفت الصحراء، وولدت العاصفة ولادة طبيعية مولودة شرعية كان اسمها أم المعارك، ثم بلمحة بصر مدتها ثلاث عشرة سنة، تم الاختلاف على اسم الحرب الجديدة فسميت عدة أسماء منها: حرب العراق، واحتلال العراق وحرب تحرير العراق، وعملية حرية العراق، وفي تسمية أخرى، يقال هي: (حرب بوش)، ولم تلد هذه التسميات مطلقا حتى اليوم. أبدا لم تلد سوى المسوخ والوحوش، ولدت عراق اليوم. ويا له من مولود!

هل عراق اليوم عادي جدا أم أقل من عادي؟

تعليق عبر الفيس بوك