الدَّم.. الحقيقة والفضيحة

رحاب أبو هوشر

في هذا الاقتتال والخراب، الدم العربي المسفوك هو الحقيقة الواضحة من غير لبس، والغائب الوحيد هو الحقيقة.. أكاذيب تقابلها أكاذيب مضادة، كل طرف يتخندق في شرعيته الوطنية المطلقة، وحقه ومشروعه السياسي، إن كان لدى أي منهم مشروع يعتد به! يكذبون في انتمائهم وحرصهم على أوطانهم وشعوبهم، وأكبر كذباتهم ادعاء البحث عن تسويات سياسية، وإيمانهم بأفق وطني وسياسي مشترك. يكذبون جميعهم، ويكيلون لبعضهم الاتهامات، يبرزون وحشية وإجرام الطرف الآخر، وفي إعلامهم دائما هم الضحايا، بينما الدم العربي تفرق على القبائل كلها.

... وضع كارثي من الأضاليل لخدمة حروب الطوائف والقبائل، لا تستقيم معه المواقف الثنائية إلا لمن أعمته الأيدولوجيا السياسية أو الطائفية؛ فكيف إذا كانت حروبا بالوكالة؟ كما أنها لا تنسجم مع صراعات المحاور الإقليمية والدولية، بالدم العربي والمال العربي، وعلى حساب حاضرنا ومستقبلنا؛ فالاصطفاف السياسي الذي كان واضحا في أزمنة كان العدو فيها معروفا وواضحا، وكان عدوا للجميع، يبدو أنها ولت، على الأقل في لحظتنا المعتمة الراهنة.

حروب أسس لها وقادها ويديرها الإعلام. لقد أصبحنا مسمَّرين يوميا أمام استقطاب محموم، لأطراف مُتناحرة تخوض حروبها بسلاحين: عسكري وإعلامي، يمشط لها طريق حروبها العبثية على الأرض. اليوم هناك ساحتا اقتتال، في الإعلام -خصوصا أمام شاشات التلفزة- حيث يسقط الناس "المشاهدون"، صرعى أكاذيب الاستقطاب المزدوجة، تمزق ما بقي من وعيهم الإنساني والوطني، لتقودهم شراسة التضليل نحو مزيد من الضياع والتفكك، ناهيك عن التخبط وعدم القدرة على فهم ما يجري، وفي المعارك الدائرة بين طرفين، يقتل كل منهما فيها شقيقه وشريكه في التاريخ والجغرافيا، ويدمر كلاهما مقدراته وثرواته، ويغتالان الوطن فكرة وممارسة.

سيضيف التاريخُ "الإعلامَ" ضمن تصنيفاته للحروب والصراعات، وفق الأسلحة التي ابتكرتها البشرية، منذ حروب السيف والمنجنيق، وحتى اختراع البارود بأسلحته التي أصبحت تقليدية، ثم القنابل الذرية والعنقودية، وكل ما أنتجته آلة العلم الحربية الغربية. لعب الإعلام بتوظيفه في الدعاية الأيديولوجية والسياسية والعسكرية دورا كبيرا منذ الحرب العالمية الأولى، لكنَّ دوره اتسع مستفيدا من التطور التكنولوجي، في الوسائل والأساليب. رأينا ذلك بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وسعي أمريكا لتفكيك منظومته الشرقية. في "الثورات البرتقالية" لدول أوروبا الشرقية أواخر التسعينيات، وتابعناه في التحضير والتسخين لشن أمريكا حربها على العراق عام 2003. شاهدنا أكثر من"شو-show" إعلامي، صُمِّم وبرمج وفق منهج وأغراض مؤسسات الإدارة السياسية الأمريكية المولعة بالإعلام، لا سيما المرئي، والمؤمنة تماما بخطاب الصورة وأثره. وإن ظل الإعلام طوال ذلك الزمن سلاحا مهما، ولكنه بقي رديفا للأسلحة السياسية والعسكرية التقليدية. اليوم أصبح الإعلام حربا وسلاحا معا، وأي حرب لا تتقدمها كاميرات وأضواء ستكون خاسرة.

وكيف لا يكذبون؟ ماذا يبرر الحروب الأهلية إلا أنصاف حقائق لإشعالها، وأرتال من الكذب لاستمرارية حريقها؟ آلة الإعلام كانت سلاحا تحريضيا أساسيا، نجحت تدريجيا طوال السنوات الماضية في تقسيم المجتمعات، وأصبح لكل طائفة أو تيار سياسي وسائله الإعلامية الموثوقة! ولأننا في ذروة هذا الانحدار، وصراع المحاور الإقليمية والدولية على أشده، لم تعد أي من تلك الوسائل تخفي اتجاهها السياسي أو خطابها الطائفي، وتمارس التضليل على متابعيها، وإعادة برمجة وعيهم، وفق أجندتها وتحالفاتها، بل نجح تحريضها في دعم الحروب بالمقاتلين.

إن كان من بطولة في هذه الحروب، ومآلاتها التي يعرفها فقط من يديرون مصير المنطقة العربية، فإنها للإعلام الذي حقق قفزة في أداء يدير الرؤوس، يسلط الأضواء هنا، ويحسرها هناك، يوجه ضرباته المتلاحقة بالتحريض والتخويف على عقل المشاهد المثخن يوميا بأخبار القتل والتدمير من تونس وليبيا وحتى مصر وسوريا والعراق واليمن، يشل قدرته على التفكير والتحليل، بعد أن يتركه مشوشا وممتلئا بالقلق. عشنا لزمن حكاية "داعش"، من تصنيع "داعش" وتصوير خطرها العظيم، إلى صدمة إعداماتها السينمائية، ثم اختفاء هذه الأفلام فجأة. هل انتهى فصل "داعش"؟ لم ننتبه لذلك إلا بعد أن أخذتنا الكاميرا باتجاه اليمن والحوثيين!

وُصفت الدولة العثمانية في أواخر عهدها بالرجل المريض، عندما أنشبت بريطانيا وفرنسا مخالبها في بلدان العالم العربي التي كانت تستعمرها، تم تقاسما التركة بينهما. ولم يمض زمن طويل بمعايير تاريخ الأمم، منذ بداية القرن العشرين. انتعش الجسد العربي قليلا، ثم دخل حالة الغيبوبة منذ عقود، بوجود أنظمة مستبدة فاسدة، حافظت على بنى التخلف والتناقضات الداخلية لحمايتها، واليوم ندفع الثمن باهظا. الوجود العربي يتفكك وبلدان تقسم واقعيا، لصالح إسرائيل وأمريكا بشكل أساسي، والفراغ السياسي وتحلل الدولة الوطنية، مع غياب أي مشروع عربي، سمح أيضا لقوى إقليمية طامحة مثل تركيا وإيران وأخرى دولية مثل روسيا بأن تعمل ومنذ سنوات على توسيع نفوذها، والاستفادة من تقسيم ممتلكات هذا الغائب المغيب، والاستيلاء على أعضائه النافعة، قبل أن يفنى، وأدواتهم بيننا يخوضون حروبهم، مناذرة وغساسنة القرن الواحد والعشرين.

تعليق عبر الفيس بوك