ضرورة التجديد الفقهي والديني لفكرنا الإسلامي

عبد الله العليان

لا شك أنّ اختيار موضوع ( فقه العصر.. التجديد الديني والفقهي)، في المؤتمر السنوي المعتاد، الذي يفتتح اليوم الأحد في العاصمة العمانية، والذي تنظمه وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ويشارك فيه علماء من كل المدارس الفقهية الإسلامية، يعتبر مطلبًا ملحًا وهامًا في ظل بروز الأفكار المتطرفة المخالفة للفكر، والحاجة إلى فهم الإسلام الصحيح كقضية محورية راهنة، والتجديد سنة كونية وقانون تاريخي تتطلبه حياة الناس وحاجاتهم الزمانية والمكانية، وحاجة الأمة إلى إصلاح واقعها الراهن، ومن هنا تأتي ضرورة تجديد الخطاب الإسلامي حتى يستعيد الفكر الإسلامي عافيته، ويستجيب لمتطلبات عصره المتغير وتحولاته الكبيرة، فالتجديد إذن سنة من سنن الله عز وجل في خلقه، تبعاً لسنة الحياة في التغيير بما يحقق مصالح الخلق، فترك التجديد أو تراجع خطابه في الأمة له الكثير من الآثار السلبية على الفكر الإسلامي وتعقيد الكثير من القضايا والمسائل التي تستحق النقاش ولتجديد المفاهيم فيها، فالقطيعة مع تجديد الخطاب جعلت الكثير من المثقفين ينصرفون عن الثقافة الإسلامية، واندفعوا إلى تبني الأفكار والمعارف الغربية، واعتقدوا أنها الحل لواقعنا ومشاكلنا القائمة. كما أنّ بعض المؤسسات الدينية في أغلبها انشغلت بالعلوم التقليدية القديمة، وقطعت الجسور مع الواقع وتحولاته، وهذا ما عمّق الفجوة في مخاطبة العصر ومقتضياته تحت شعار الحفاظ على الهويّة والذات من الاختراق الثقافي والفكري.

ومن هذه المنطلقات أصبح خطابنا الديني عموما، سكونيا وجامدا وبطيئا في حركته واستجاباته لحركة الواقع ومتغيراته، وبمسافة زمنية ليست بالقليلة. وفي كثير من الأحيان يظل الخطاب الإسلامي في مجمله قانعاً بمناقشة نوعية من الموضوعات، والإشكالات التي قد تجاوزها الواقع، وفي أحيان كثيرة تحدث تحولات جوهرية في الواقع، ولا يلقي إليها التفاتاً. فقضايا مثل التعليم وتطويره ليواكب حركة الزمن، وقضايا الشباب ومشكلاته، ومواجهة الغلو والتطرف، وقضايا الاغتراب وفقدان أو تضاؤل الشعور بالانتماء.. إلخ؛ كل تلك القضايا لا تجد في الخطاب الإسلامي قدراً من الاهتمام المطلوب، يتناسب مع أهميته ومحوريته في تشكيل وإعادة تشكيل الواقع.

والدين جاء ليحرر عقل الأمة من الأثقال، ويرشده بمنارات هادية كما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية، لذلك أصبح تجديد الخطاب الديني ملحاً وهاماً خاصة في ظل تصاعد الكثير من الخطابات الفكرية في عصرنا الراهن في ظل التحولات الفكرية وتصاعد مد العولمة وإرهاصات الاختراق الفضائي عالمياً، مع بروز بعض الخطابات الدينية المتطرفة، والتي لا تمثل فكراً إسلامياً مستمدا من الرؤية الصحيحة للإسلام، وتقابله من جانب آخر بعض الخطابات الأخرى التي تطرح خطاباً تغريبيا بعيدا عن قيم الأمة وتراثها، ولا ينبعث من واقع فكرنا الإسلامي، ولا يلامس قضاياه الصحيحة في ظل وجود خطاب ديني تقليدي سكوني وثابت على مقولات وخطابات وتراث السابقين الذين خاطبوا عصرهم بظروفه ومشكلاته، لكنّها - أي هذه الخطابات - في بعض مضامينها لا تتناسب وراهننا الحالي بتحدياته المتعددة؛ مع تقديرنا واحترامنا لهذا التراث، ومكانته في فكرنا الإسلامي. من هنا أصبح من الضروري تجديد الخطاب الإسلامي بما يلامس واقعنا، ويحرك الساكن الفكري، لأنّ مهمّتنا الأساسية ليس القبض على التاريخ وقضاياه، بل إصلاح الواقع مع توظيف ماضي الأمة العريق والقويم في النهوض بالواقع وإصلاحه، وعلينا أن نوضح في مسألة تجديد الخطاب الديني أن نفرّق بين الفكر الإسلامي البشري، وبين نصوص الوحي وقطعياته الثابتة، فالمحدد في الخطاب الإسلامي في عمومه هو التزامه بالمرجعيّة الإسلاميّة، وضرورة ألا يحيد عن منهجها في الرؤية والهدف، لكن عليه أن يكون واعياً للتحولات الثقافية والتغيرات الفكرية والسياسية في عالم اليوم، وأن يدرك أنّ الخطاب الساكن الجامد غير المتابع والراصد لكل التحولات الراهنة، لا يستطيع أن يضع الخطاب المناسب والعميق لما يدور حوله ويظل رهين آليات الفهم التقليدية في الخطاب الذي لا يجد الاستجابة والتأثير في الداخل، أو الإقناع والتفهم في الخارج.

وليس هذا ما يتناقض مع الدين وحقائقه الثابتة، فالبعض قد يتوهم أنّ التجديد يناقض ثوابت الإسلام، واكتماله فيرفضون مبدأ التجديد كلية ويعتبرونه تهديما للدين نفسه، وهذا ليس صحيحاً - كما يقول د. محمد عمارة - فالتجديد هو "السبيل لامتداد تأثيرات الدين الكامل وثوابته إلى الميادين الجديدة، والأمور المستحدثة، والضمان لبقاء ((الأصول)) صالحة دائماً لكل زمان ومكان. أي أنّه هو الضمان لبقاء الرسالة الخاتمة خالدة الخلود الذي أراده الله، ولولا مد ((التجديد)) الفروع الجديدة إلى الجديد من المحدثات، وإقامته الخيوط الجديدة بين الأصول الثابتة وبين الجديد الذي يطرحه تطور الحياة، ولولا تجديده الدائم الذي يجلو الوجه الحقيقي والجوهر النقي لأصول الدين وثوابته؛ لولا دور ((التجديد)) هذا في حياة الإسلام ومسيرته لنسخت وطمست هذه الأصول، إمّا بتجاوز الحياة الممتدة لظل الفروع الأولى والقديمة، فيعرى هذا الامتداد الجديد من ظلال الإسلام، أو بتشويه البدع - عندما تتراكم - لجوهر هذه الأصول؛ فالتجديد إذن، هو السبيل لاستمرارية - أي ثبات - الدين الكامل، وليس نافياً لثبات واكتمال هذا الدين. ولذلك نجد أنّ الحكمة الشرعية لهذه الديانة الخاتمة, وعبر الصيرورة الزمنيّة المتغيّرة, وبروز الحاجات الجديدة جعل الاجتهاد ضرورة شرعية أو فرض كفاية حينًا وفرض عين في حين آخر, ولهذا المطلب مدلولاته وشروطه المنضبطة بضوابط العدل والحق والحرية والمسؤولية, لا يوجد في أي عصر من العصور تشريع أوتى من المرونة والسعة مثل ما أوتى الاجتهاد في التشريع الإسلامي في نصوصه الظنية, وفيما لا نص فيه وفي هذا حكمة من الخالق عز وجل الذي جعل أغلب نصوص القران الكريم مجملة وكلية غير مفصلة, لتفي بحاجات الناس المتجددة ورحمة للعباد وتيسيرا لهم عبر العصور والبيئات والمتغيرات الزمانية والمكانية, وهي سنة الله في خلقه ليكون التطوّر والتغيّر هو سنّة الحياة الإنسانية. وقد عبر عن ذلك أحد المفكرين الغربيين الدكتور هوكنج أستاذ الفلسفة في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة بقوله: " إنّ في نظام الإسلام كل الاستعداد الداخلي للنمو، بل إنه من حيث قابليته للتطور يفوق كثيرا من النظم المماثلة - مضيفا - أنّ الصعوبة لم تكن تكمن في انعدام وسائل النمو والنهضة في الشريعة, وإنما في انعدام الميل إلى استخدامها, إنني أقر أنّ الشريعة الإسلامية تحتوي على جميع المبادئ الإسلامية اللازمة لنهضتها".

وكان للصحابة رضوان الله عليهم السبق الأوفى في استنباط الكثير من القضايا الاجتهادية، التي توافق روح النص ومقصد الشارع في ما تتطلبه الضرورات الآنية للواقعة التي تلتزم رأياً اجتهادياً. والأمثلة في هذا المضمار كثيرة ووفيرة منها: اجتهاد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه برأيه في (المؤلفة قلوبهم) وفي (مسألة تقسيم أراضي العراق) وفي (عدم قطع يد السارق في عام المجاعة)... إلخ. وإذا كان الصحابة والتابعون في عصر الإسلامي الأول قد اجتهدوا في الكثير من القضايا التي طرأت في ذلك الوقت، فإننا في هذا العصر محتاجون وربما مضطرون لتفعيل معطيات الاجتهاد والتجديد وتكييفه بما يطرأ من متطلبات العصر الراهن بتحولاته ومتغيّراته الفكريّة واكتشافاته العلميّة الرهيبة، وهذا لا يعني أننا يجب أن نقلد ما فعلته الأمم الأخرى في قيمها وموروثاتها؛ بل المقصود أنّ الأحوال متغيّرة في كل عصر وتحتاج المجتمعات أن تلامس ضروراتها المتجددة وفق ما جاء في الحديث الشريف ( إنّ الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها).

والواقع أنّ مهمة التجديد ليست مقتصرة على فهم خاص أو جانب من جوانب الإشكالات في الفكر الإسلامي أو ظاهرة حياتيّة في واقعنا واقتصارها عليه، وإنما التجديد كما جاء في مشروعيته يرتبط بحاجتنا لهذا التجديد ومراميه وأهدافه بصورة جليّة ومفتوحة بما يطرح من إعادة النظر في قضايا مستجدة وملحة طرأت على واقع الأمّة وجعلت مسألة التجديد قضية تحتاج إلى حراك فكري إسلامي تستعيد الفهم الصحيح لهذا الدين، والتبصر بما سيكون عليه حاضرنا والتخطيط السليم للمستقبل، وفي الوقت نفسه لا تحيد عن المرجعية الإسلامية في طرح ما نراه ضرورياً وملحاً في قضايا ومسائل التجديد، لكننا أيضاً علينا أن نستفيد من معطيات العصر ومنجزاته وتطوراته العلمية في عالم اليوم.

تعليق عبر الفيس بوك