قدر الكبار

زاهر بن حارث المحروقي

هناك من الرجال من هيّأهم القدر أن يكونوا كباراً، بما وهبهم الله سبحانه وتعالى من مواهب كبيرة ليقوموا بأدوار تاريخية عظيمة؛ ومن هؤلاء جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه-؛ إذ لا نحتاج في هذا المقال أن نردد ما سبق وأن قلناه أو ما قاله الكثيرون من غير العمانيين عن الأدوار التاريخية التي قام بها في هدوء تام بعيداً عن الضجيج.. إلا أنّ عودة جلالة السلطان المعظم من فترة العلاج في ألمانيا، تفرض أن نقول إنّ قدر جلالته أن يجد ملفات كثيرة وكبيرة بانتظاره، داخلية وإقليمية.

في الملف الداخلي؛ فإنّ غياب جلالته عن عُمان لثمانية أشهر متواصلة لأوّل مرة منذ توليه مقاليد الحكم، بالتأكيد قد فتح آفاقاً جديدة لدى فكر جلالته حفظه الله حول مستقبل السلطنة، وهو الحريص دائماً على المحافظة على الإنجازات التي حققها خلال السنوات الماضية، ممّا أعطاه ذلك الحب الصادق لدى شعبه، والذي تجلى خلال مناسبتين هما، يوم الأربعاء 5 نوفمبر 2014، عندما أطلَّ جلالة السلطان المعظم حفظه الله ورعاه على شعبه عبر الشاشة، وطمأنهم على صحته، حيث عمّت الأفراح عمان من أقصاها إلى أقصاها بتلقائية وعفوية؛ والمناسبةُ الثانية كانت يوم الإثنين 23/3/2015، وهو اليوم الذي أطلَّ فيه جلالته على شعبه، وهو نازل من الطائرة "نزوى"، التي أقلته في رحلة العودة إلى مسقط، بكلِّ هدوء ودون أية ضجة، ممّا جعل اليومين المذكورين يومي فرح حقيقي عند العمانيين؛ ..(وعندما نقول إنّ العودة كانت بكلِّ هدوء، فهذا هو الذي حصل تماماً حيث لم يعرف الناس أنّ جلالته قد عاد إلا بعد صدور البيان.. وقد توالت بعد ذلك الأفراح في كلِّ مكان، واحتفل الموظفون في مقرات أعمالهم حتى تعطلت أعمال الناس في بعض الوزارات، في وقت كان جلالته أكثر الناس حرصاً على ضمان استمرار مصالح الناس دون انقطاع، فأجمل احتفال، هو المحافظة على الإنتاجيّة في العمل حتى ترتفع عمان، كما أراد لها جلالته حفظه الله)..

لقد كان جلالة السلطان المعظم - رغم فترة علاجه- متابعاً لأمور الدولة؛ لذا فهو الأقدر على معرفة القرارات المناسبة التي تناسب الفترة المقبلة من مسيرة النهضة المباركة، بعد أن وعد جلالته - حفظه الله- في كلمته التي ألقاها من ألمانيا بأن تستمر المسيرة العمانية عندما قال إنّها "ماضية بكل عزيمة نحو مُستقبل مُشرق واعد من التطور والنماء"؛ وبالتأكيد فإنّ استمرار المسيرة نحو المستقبل المشرق، يتطلب أن تتضافر جميع الجهود، من الحكومة والشعب، من خلال الإحساس بمسؤولية الانتماء الوطني والعطاء، لأنّ التحديات كبيرة سواء كانت داخلية أو المحيطة بنا.

في الملفات الخارجية تنتظر جلالة السلطان المعظم، قضايا دول الجوار، خاصة الملف اليمني الملتهب الآن، وهو ملف حساس جداً لعمان بحكم الجوار أولاً، ثمّ بحكم تأثير أحداث اليمن على المنطقة؛ فقَدَرُ جلالته أن يوجد الحلول ويسعى لوساطات تحفظ للجميع كرامتهم؛ وهو الدور الذي اضطلع به جلالته عبر التاريخ وفي صمت وهدوء دائماً. من هنا قدّر الناس الموقف العماني المتزن بعدم المشاركة في العدوان على اليمن؛ وكما هو معروفٌ.. فالسلطنةُ ليس لديها تلك الأموال الطائلة حتى تشتري الأشخاص والولاءات؛ ولكنها مع ذلك استطاعت أن تتوسط بين القوة العظمى وإيران لصالح المنطقة، ممّا أدى إلى تجنيب المنطقة ويلات حروب في الأصل هي في غنى عنها؛ لذا لم يكن مستغرباً أن يتوقف "جون كيري" وزير الخارجية الأمريكي في ألمانيا ليقابل جلالة السلطان على مدى ساعة ونصف لمتابعة الملف الأمريكي الإيراني، وملفات المنطقة العديدة.

لقد قامت السلطنة بفضل السياسة الحكيمة لجلالة السلطان المعظم - حفظه الله ورعاه- بالعديد من الأدوار التاريخية ولكن بصمت؛ فكان الهم الأكبر الذي شغل فكر جلالته هو إبعاد الحروب والتوترات عن المنطقة؛ وكلُّ من قابل جلالته خرج بانطباع طيّب وحسن عن مواقفه ورؤاه بعيدة النظر؛ فمثلاً، في كتابه الهام "الرواية المفقودة" الذي صدر في شهر يناير من العام الحالي؛ يذكر فاروق الشرع وزير الخارجية السوري السابق أنه رافق الرئيس حافظ الأسد عام 1981، في جولته لدول الخليج ولعدد من الدول العربية، بهدف تطويق الحرب العراقية الإيرانية، ولمحاولةِ انتشال التضامن العربي من حالة ترديه، ويقول الشرع، إنه تكونت لديه بشكل مبكر في تلك الرحلة خبرةٌ وثيقة بسماتٍ أساسية للقادة العرب، حيث عبّر الرئيس حافظ الأسد مع كلِّ القادة الذين التقاهم، أنّ توسيع الحرب مع إيران سيقود إلى نتائج مدمرة، منها إعادة الأساطيل والقوى الأجنبية الكبرى إلى المنطقة، وتقسيم العرب، وإضعاف تضامنهم في مواجهة العدو الأساسي للعرب وهو إسرائيل". ويقول فاروق الشرق إنّ "السلطان قابوس كان أكثر من غيره من قادة دول الخليج إدراكاً للمستجدات في المنطقة، وإدراكاً لهذا الواقع الذي فرضته الجغرافيا والتاريخ".

وفي هذا الإطار فإنّ جلالة السلطان قابوس - حفظه الله- قد قام عام 1987، بالتوسّط بين إيران والعراق لإيقاف الحرب العراقية - الإيرانية، وحاول أن يجمع بين الرئيسين "صدام حسين" و"هاشمي رافسنجاني"، ورغم فشل تلك المحاولات، إلا أنها هيّأت الخلفية للجانبين لقبول وقف إطلاق النار بعد عام من ذلك، وفي ذلك يقول الكاتب الروسي "سرجي بليخانوف" في كتابه "مصلح على العرش": "كانت علاقات السلطنة مع طهران في سنوات الحرب العراقية الإيرانية على أفضل ما يكون، فلئن كانت الأقطار المجاورة الأخرى قدمت لـ"صدام حسين" مساعدات سخيّة في حربه ضد إيران، فإنّ عُمان لعبت دور القوة الساعية إلى المصالحة، الأمرُ الذي حظي بتقدير عميق على كلتا ضفتي الخليج"، وقال "بليخانوف" إنّ أقطار الخليج عندما أيدت العراق ودعمته بأموالها في أطول حرب في القرن العشرين، كشفت عن قِصر نظر عجيب، ثم اكتشفت فجأة أنها عاجزة عن إنقاذ نفسها إلا بمساعدة جيوش أجنبية جرارة، وأنّ هذه الدول انقلبت على "صدام"؛ فبعد أن صوّرته في حربه الأولى بأنه بطل وحارس البوابة الشرقية، صارت تلعنه وتسفهه، أمّا عُمان فكانت غير متذبذبة، وكان النهج السياسي للسلطان قابوس حتى في ساعة المحنة أقل تعرضاً للتذبذب، لأنه صيغ على أساس التقويم الواعي والواقعي للزعماء السياسيين وأفعالهم في المستقبل المنظور، لا على أساس من الهوى والغرض".

وما أشار إليه "سرجي بليخانوف" عن الأزمة العراقيّة يكاد ينطبق تماماً على الأوضاع الآن في المنطقة، إذ أنّ الموقف العماني ظلّ ثابتاً غير متذبذب، فيما تذبذبت مواقف الآخرين، وقد أكدت أزمة اليمن ما ذهب إليه "بليخانوف" عندما تحدث عن قِصر نظر عجيب عند البعض، ثم سيكتشفون في اللحظة الحاسمة، أنّهم عاجزون عن إنقاذ أنفسهم إلا بمساعدة جيوش أجنبية جرارة.

إنّ قدر جلالة السلطان المعظم أن تنتظره ملفات صعبة وشائكة، سواء على الصعيد الداخلي، لأنّ ملفات كثيرة تحتاج إلى مراجعة؛ أو على الصعيد الخارجي، لأنّ وساطة جلالته مقبولة من الكل، فسجلُّه ناصع البياض، ولا يمكن لأحد في العالم، أن يقول إنّ في رقبة جلالته دماء أبرياء اليمن أو سوريا أو ليبيا أو مصر أو أيّ مكان آخر، فهو رجل سلام، لم يُدخل نفسه فيما لا يخصه، ولم يُعط بلده أكبر من حجمها، ومع ذلك فإذا قام بأدوار تاريخية، فإنّ مصير كلِّ ذلك يكون في كتمان، ولا عجب أن يطلب الاتحاد الأوروبي من السلطنة أن تقوم بدور الوساطة لإنهاء العدوان على اليمن. إنّ جلالة السلطان المعظم - حفظه الله - يملك شخصية قيادية، استطاع من خلالها أن يبني عمان ويُبعدها عن الكثير من الأمراض التي عصفت بالأمة؛ ممّا انعكس إيجابياً على الوطن؛ فجعل من السلطنة واحة أمان وسط بحار هائجة من الاقتتال الطائفي والمذهبي والقبلي وغيره.

من هنا أعيد ما كتبته في مقال سابق لي في "الرؤية"، إنّ قلق العمانيين على صحة جلالة السلطان المعظم كان قلقاً مشروعاً؛ فهو قلق على صحة قائدهم المفدى أولاً، وهو قلق على مستقبل عمان في عالم يموج بالفوضى والاضطرابات؛ وهو قلق على مصير بلد ارتبط اسمه باسم بانيه، ممّا يجعلنا نرجو أن تتم مراجعة بعض مواد ونصوص النظام الأساسي للدولة التي تتعلق بمستقبل الوطن، حفاظاً على الإنجازات التي حققها جلالته - حفظه الله- والتي جعلته من القادة العمانيين العظام، الذين سيسجلهم التاريخ بإنجازاتهم؛ فجلالته رمزٌ كبير للوحدة الوطنية، ورمزٌ كبير لعوامل الاستقرار في المنطقة؛ لذا فإنّ المواطنين على ثقة تامة في حكمة جلالته في قيادة السفينة العمانية إلى بر الأمان بما يحقق طموحاتهم، حاضراً ومستقبلاً.

Zahir679@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك