صورة المثقف

أحمد الرحبي

في وصفه للموهوب الذي يحوز في داخله موهبة حقيقية أصيلة، يقول الكاتب الروسي الكبير أنطوان تشيخوف، رائد القصة القصيرة بمعناها الحديث: إن البرميل الفارغ يصدر عنه صدى صوت أكثر من البرميل الممتلئ، ولا يشكل هذا الامتلاء في المقولة التي يسوقها تشيخوف إلا كقرينة على الموهوب الحقيقي الأصيل في موهبته، فهناك حسب رأيه فنان أو موهوب واحد يوجد بين مليون شخص، وحسب رأيه فإن الموهبة بإمكانها أن تغفر أي شيء، فعندما تضع موهبتك في منزلة خاصة، حتى لو كنت ضفدعا أو عنكبوتا سيحترمك الناس.

لكن الموهبة وحدها لا تكفي في نظر تشيخوف، فالافتقار إلى الثقافة مهما كان علو الموهبة وصدقها تعتبر إخفاقاً في حد ذاته من التقدم للأمام بهذه الموهبة وتحقيق مستوى من الصقل والتطور لها، فلكي يعيش الموهوب مرتاحا بين المتعلمين وليتمكن من معايشتهم بسعادة يوصي أنطوان تشيخوف الموهوب بأن يحوز قدرا محددا من الثقافة، فبرغم أنّ الموهبة بإمكانها أن تدخل الموهوب في دائرة المثقفين، بدون حيازة مستوى من الثقافة، لكن في نظره يعيش الموهوب حينها بدون الثقافة حالة من التأرجح بين المثقفين والمستأجرين حسب رأيه، حيث يتم سحبه بعيدًا عن دائرة الثقافة نظرًا لكون أن للمجتمع والحياة شروطهما، وإذا كان أنطوان تشيخوف يضع الثقافة كشرط أساسي ومهم للموهبة لكي تينع وتثمر هذه الموهبة، فإنّ هذا المثقف الذي لا بد للموهوب أن يحوز قدرًا من صفاته، له عدة شروط حسب رؤية تشيخوف، على المثقف أن يستوفيها، من بين هذه الشروط احترام الجانب الإنساني والتعاطف واحترام ممتلكات الغير وحقوقهم والإخلاص وعدم الكذب وعدم الحط من قدر أنفسهم واحترام الموهبة لديهم وتنمية الحس الجمالي في داخلهم، وفي الأخير على ألا يعطوا لأنفسهم الأولوية على الآخرين.

وهذه الصفات تنعكس في أفعال المثقفين وفي تعاملهم مع الآخرين وهي التي تشكل شخصياتهم وتجعلهم دائماً منفردين بهذه الصفات في المجتمع، فالمثقف الحقيقي من صفاته أن يكون ودودا ودمثا ومهذبا ودائما هو على استعداد دائم للعطاء بلا حدود، والمثقف بطبعه يكون متعاطفًا دائمًا ليس مع المتسولين والقطط فقط، وإنما مع المجتمع والإنسانية بشكل عام، كما أن المثقف الحقيقي من صفاته الإخلاص وعدم الكذب فهو يخشى الكذب في سلوكه مع الآخرين كما تخشى النار، متحاشياً الكذب حتى ولو في الأشياء الصغيرة، فالكذب في نظره إهانة للمستمع ويضعه في منزلة أدنى بالنسبة للمتحدث، والمثقف الحقيقي من صفاته عدم التظاهر ولا يتعمد الاستعراض أمام رفاقه الأقل منه منزلة، وهو عديم الثرثرة ولا يثقل على الآخرين بثقته بنفسه، واحتراما منه للآخرين فإن من عادة المثقف الميل إلى الصمت أكثر من الكلام، والمثقف الحقيقي لا يلعب على شغاف قلوب الآخرين ليجعلهم يتنهدون ويستولي عليهم، لأن كل ذلك في نظره ليس سوى سعي وراء تأثير رخيص، ومبتذل وتافه وزائف، كذلك فإنّ المثقف الحقيقي من صفاته عدم الخيلاء والغرور في سلوكه مع الآخرين فهو دائماً ما يحافظ دوما على اندماجه بين الجموع، ويكون بعيدا قدر المستطاع عن الإعلان عن ذلك.

هذه هي أبعاد صورة المثقف كما يراها الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف، والتي فصلها في رسالة نصح موجهة إلى أخيه نيكولاي - وهو فنان تشكيلي موهوب- والتي بدأها بهذه الكلمات: أنت دائم الشكوى من أن الناس (لا يفهمونك) ولم يشك جوته ونيوتن من ذلك، فقط المسيح اشتكى، لكنه كانت شكواه تنصب في مجال العقيدة التي جاء بها، وليس عن نفسه. إن الناس يفهمونك جيدًا، وإذا لم تفهم نفسك فليس ذلك خطأهم.. في الأخير يناشده في ختام الرسالة: تعال إلينا وحطم زجاجة الفودكا، وتمدد، وابدأ القراءة المستمرة، والدراسة، والإرادة، فكل ساعة هي ثمينة بالنسبة للمثقف والموهوب.

تعليق عبر الفيس بوك