زاهر المحروقي
دخلتْ الأزمة السورية هذا الشهر، عامَها الخامس دُوْن أن تلوح في الأفق بوادر تدلّ على أنّ النهاية باتت قريبة؛ وفي كلِّ الأحوال فإن الشعب السوري هو الذي دفع الثمن غالياً؛ إذ انهارت الدولة، وفقد الناس الأمان، وتدمَّر الاقتصاد السوري تماماً، ولم يحصل الشعب السوري على الحرية والديمقراطية التي تسابقت بعض الدول الخليجية لتسويقها للشعب السوري، وقد أُنهِك الجيش السوري طوال أربع سنوات أمام جحافل قدِمَت من كل الأرض، تريد "الحياة الكريمة" للسوريين، وهي النكتة التي لا تُضحك أحداً؛ لأن نكتةً سمجة كهذه كانت نتيجتها -حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان- سقوط 215 ألفاً و518 قتيلاً، منذ 15 مارس 2011، من بينهم 66 ألفاً و109 مدنيين؛ فيما كانت خسائر الجيش السوري 46 ألفاً و138 جندياً، و30 ألفاً و662 من قوات الدفاع الوطني؛ وهو عدد كبير بالتأكيد، وهي في الواقع مشكلة كبيرة أن يجد الجيش نفسه يواجه عدواً في الداخل، سواء كان هذا العدو هو الشعب أو المرتزقة الذين أتت بهم الدول من كل مكان لتنفيذ النكتة السمجة.
لقد صَمَد النظام السوري طوال السنوات الأربعة الماضية، أمام الهجمة الإقليمية الشرسة، وكذلك صمد الجيش السوري ولم ينهار؛ فيما انهارت أكثر من معارضة سورية تم تشكيلها من الخارج؛ لأنها لم تكن تمثل الشعب السوري في شيء، وقد لعبت هذه الأسباب الداخلية دوراً مهماً في ظهور بعض البوادر الأمريكية ترى ضرورة التفاوض مع الحكومة السورية، خاصة بعد أن اقتربت واشنطن من توقيع اتفاق نووي مع إيران، قد يؤدي إلى رفع العقوبات الاقتصادية عنها، وقد يؤدي هذا الاتفاق إلى التعاون بين إيران وأمريكا، لأن إيران أثبتت نفسها إقليمياً ودولياً -والعالمُ بالتأكيد لا يعترف إلا بالقوي- وبالتالي على الدول التي راهنت على أمريكا "أن تشرب فنجان قهوة، وتبلع الإهانة" -حسب مصطلحات الأستاذ الراحل "سلطان العزة" مدرس الجغرافيا في مدرسة الوليد بن عبدالملك في السبعينيات- فالمصالحُ هي التي تفرض نفسها، والدولُ الحقيقية هي التي تبحث عن مصالحها ومصالح شعوبها، لا أن تغرد خارج السرب ضد مصالحها ومصالح مواطنيها، وتظن أنهم ما زالوا قاصرين، ومن المنطق -والحالةُ هذه- أن تفرض إيران على أمريكا أجندتها ومنها الملف السوري؛ باعتبار العلاقة بين سوريا وإيران إستراتيجية.
... لقد أثارتْ تصريحات جون كيري وزير الخارجية الأمريكي ردود فعل واسعة، عندما قال في مقابلة مع قناة "سي.بي.إس نيوز"، بثته يوم الأحد 15/3/2015، "إن واشنطن تبحث سبل الضغط على الرئيس الأسد لقبول المحادثات.. وعلينا أن نتفاوض في النهاية، وقد كنا دائماً مستعدين لذلك في إطار عملية جنيف 1"، بل إن كيري ذهب إلى بعيد عندما قال إنَّ الولايات المتحدة ودولاً أخرى "تبحث سبل إعادة إطلاق العملية الدبلوماسية لإنهاء الصراع في سوريا"؛ ولم يذكر الموقف الأمريكي المعتاد من أن الرئيس الأسد قد فقد كل شرعية له وأن عليه أن يرحل، وإنْ كان ذكر أن سبب التفاوض هو لنقل السلطة، وهذا الشرط ليس من السهولة أن يقبله الرئيس الأسد.. لأن سوريا في الأصل كانت عصية على أمريكا، وقد شهد بذلك كل الرؤساء الأمريكيين الذين قابلوا الرئيس حافظ الأسد، سواء في دمشق أو في جنيف.
لقد جاءت تصريحات جون كيري هذه بعد 24 ساعة فقط من تصريح جون برينان مدير وكالة "سي.آي.إيه" أمام مركز أبحاث "مجلس العلاقات الخارجية" في نيويورك، الذي قال فيه إن "واشنطن قلقة من أن يفتح انهيار النظام السوري الطريق أمام سيطرة المتطرفين"، ولكن السؤال المهم الآن هو: بعد ماذا..؟، بعد أن دمروا سوريا ومزقوها وزرعوا فيها الطائفية البغيضة بين الشعب السوري الذي كان آمنا وموحداً؟
لا يجبُ أن يُظن من كلامي هذا أن الرئيس الأسد على حق بالضرورة؛ بل يجب أن يُنظر إلى المسألة من جميع جوانبها؛ فالقضيةُ السوريةُ ليست في فرد بقدر ما هي قضية دولة عريقة لها سياسات تختلف عن سياسات من وجه بوصلته إلى واشنطن ليخدم الكيان الصهيوني؛ سواء كان يدري أو لا يدري، وفي كلتا الحالتين فإن الأمر مصيبة، وهو تماماً ما حصل في العراق؛ إذ إنَّ الأمر لم يكن قضية فرد أو حزب بقدر ما كان قضية تدمير دولة مقاوِمة لها مواقف ثابتة تجاه الوجود الصهيوني نفسه.
ماذا لو قدَّمت الدول الخليجية للحكومة السورية تلك المساعدات التي قدمتها للمعارضة السورية؟ إنَّ كلَّ فلس قُدِّم للمعارضة السورية لم يكن من أجل الشعب السوري، بقدر ما كان لتدمير سوريا ولتشتيت السوريين، فلم نر أن تلك المساعدات وصلت للشعب السوري، ولا وصلت إلى سوريا في الأصل، بل ذهبت هباءً منثوراً.. ذهبت لشراء سلاح يقاتل به الأجانبُ الجيشَ السوري والمواطنين السوريين البسيطين؛ ثم قد يأتي يومٌ وتعقد نفس الدول مؤتمراً للمانحين في دمشق، تتسابق فيه بعض الدول، خاصة التي دفعت للمعارضة السورية؛ فيما هناك بعض الشعوب تعتاش على التسول، حتى يأتي يومٌ تُظهر فيه الشعوب "العين الحمراء"، وقد يكون ذلك ليس بعيداً.
للأسف.. إنَّ بعض الدول التي تنتقد سوريا؛ لأن لها علاقة إستراتيجية مع إيران، لم تنتبه إلى هذه النقطة إلا الآن، رغم أن العلاقة قديمة جداً وكانت إستراتيجية من أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد، والأغربُ من هذا، هو: لماذا لم يُقيموا هم علاقة إستراتيجية مع سوريا، رغم أنهم الأولى بذلك؟! ثم السؤال الأهم هو: عندما كان الشاه محمد رضا بهلوي يحكم إيران، ويتحكم في دول الخليج، ولم يترك لها حتى فرصة للتنفس.. ألم يكن الشاه شيعياً؟ وألم تكن إيران شيعية؟ إنَّ نغمة إدخال المذاهب في كل شيء ابتداءً من السياسة وحتى الرياضة إنما هي نغمة دخيلة، وهي بتخطيط من الخارج وبتنفيذ من الداخل، فعلى مدى التاريخ لم نر أو نقرأ أن سوريا قامت بدورٍ لتشييع الناس أو لتشييع المنطقة؛ وإنما لها خط سياسي واضح؛ وقد اختلف هذا الخط مع خطوط الآخرين، الذين رضخوا للمتغيرات.. فيما بقيت سوريا على ثوابتها. وعندما ترضى أمريكا تماماً عن إيران وتتعامل معها كشرطي للمنطقة -مثلما كانت أيام الشاه- فالكل سيتسابق لإرضائها وستختفي النغمة المذهبية من الوجود، لأن هناك "عيناً حمراء" بالمرصاد. (وأنا أعلم مسبقاً أن المذهبيين لهم رأيٌ آخر مختلف عن رأيي، وأقول هذا حقهم تماماً؛ فمن يبني رأيه ومواقفه على المذهبية أو على الأيديولوجية فقط؛ لن يقتنع برأي مخالف حتى وإن كان فيه من الحقائق ما فيه).
... لقد مرَّت على الشعب السوري الشقيق أربعة أعوام صعبة، دفع فيها هذا الشعب ثمناً غالياً لصراعاتٍ لا تخصه من قريب أو بعيد، ولعل خالد خوجة رئيس "الائتلاف الوطني السوري" المعارض، كان محقاً عندما وصف حلف "أصدقاء الشعب السوري" بأنه "يمثل حلفاً من ورق"، فهو فعلاً كذلك؛ لأنَّ الداعمين أرادوا من الائتلاف والمعارضة السورية أن يكونا مجرد أدوات فقط لتنفيذ ما يريدون، وعندما تنتهي أدوارهم سيُلقَوْن في المزابل تماماً، مثل ورقة المحارم المستخدمة، والأمثلةُ في العراق شاهدةٌ على ذلك.
قد يسقط النظام السوري وقد لا يسقط؛ ولكنَّ القضيةُ هي استهداف سوريا، وقد استُهدِفت ونجحت الخطة، فلا معنى لبقاء النظام أو ذهابه، ولكن يكفيه حتى الآن صموده أمام الهجمة العالمية الشرسة.. بالمال، والسلاح، والأفراد الذين أتوا من 80 دولة؛ ولتهنأ إسرائيل، بعد سقوط بغداد، واستهداف دمشق، وانشغال مصر بقضايا الداخل، ولتهنأ إسرائيل لأنها نجحت في تسويق عدو جديد، فيما أصبحت هي الحليف.
Zahir679@gmail.com