عائشة البلوشية
ما أروع سماء عمان ليلاً، وخاصة عندما يرخي الليل سدوله، وتصل قوافل الظلام زائرة سماء محافظة الظاهرة، تبدو السماء في وﻻية عبري الوادعة للناظر وكأنّها علبة مجوهرات ذات لون أسود مخملي والجواهر تتناثر هنا وتجتمع هناك، وما أجمل ذلك المنظر إذا ما اجتمع في جلسته جبل كاواس وسفوحه، وجمر حطب السمر يتسابق في انضاج "قرص الجمر"، لتنتشر تلك الرائحة في الأجواء لتحمل جلاسها إلى حديث حول الركبان الذين عبروا من ذلك الموقع، ويكون عسل البرم حاضرًا، وإبريق الشاي يثور بحبات الهيل، ونسمات البرد تسرح حاملة ذلك المزيج السحري الواقعي، لتحط به في حالة من الصفاء الذهني البعيد عن تعقيدات الحياة العصرية، وبالأخص بعيدًا عن أجهزة الاتصاﻻت التي ألغت معها كل أنواع الخصوصية.
كان جدي الشيخ سويدان بن محمد - رحمه الله- ينتقل في رحلة الشتاء والصيف، ففي القيظ يبقى في بيته في النخل، وفي الشتاء ينتقل إلى الضفة الأخرى من العراقي إلى مزرعته على مجرى وادي الكبير، حيث يفسل النخل ويزرع ويهتم بتربية الإبل والخيل التي يعشق، وبحكم تربيته أتنقل معه برفقة عمي الشيخ علي بن سويدان وزوجته وابنتهما الصغيرة، وكانت ليلة ﻻ أنساها، حيث لم تصل الكهرباء إلى البلاد بعد، وما أن يؤذن العشاء ويهجم الظلام حتى يحين وقت النوم، وجرت العادة أن يكون النوم على أسطح المنازل، أو على المنامة المصنوعة من جريد النخل ويتم رفعها عن مستوى الأرض، حتى يبقى النائم بعيدا عن الدواب والهوامش التي تدب أو تزحف على الأرض ليلا، وحان وقت النوم وافترش جدي - رحمه الله- الأرض أمام باب المنزل مباشرة ربما حتى نبقى أقرب إلى الجحال (أواني فخارية لحفظ الماء ويتم تعليقها حتى يبقى الماء باردًا بها) ليتسنى لنا شرب الماء أثناء الليل، وإذا كنّا نتوسد بعض النمارق الصغيرة، فإنّ جدي كان يتوسد سلاحه تحسباً ﻷي طارئ، وبدأ الليل يرخي سدوله، وأخذ الحديث يرحل بهم إلى السماء التي ﻻ يفصلنا عنها سوى البعد الشاسع، وبأسلوب جميل وحتى أذهب في النوم قال لي قولي: "بنات نعش، شاﻻت نعش، من قال سبع ما طاح النّار"، ويجب أن أقولها سبعاً دون أن أتنفس!!، وكان هذا صعبا، لكن لكثرة محاوﻻتي أغرق في النوم دون أن أحس؛ لكنه في تلك الليلة أشار إلى السماء وقال تلك هي بنات نعش، عبارة عن مجموعة نجمية في السماء على شكل محماس قهوة صغير وآخر كبير(حسب وصف جدي رحمه الله)، وهي معروفة بالدب الأصغر والدب الأكبر، وذلك هو نجم الميزان، وتلك هي مجموعة الثريا، وكنت مشنفة الآذان ﻷنني أخذت بتلك المعلومات الجديدة عليّ، وأن للنجوم أسماء ودﻻﻻت مثلنا نحن البشر، وأن هذا علم عميق ﻻ يعرفه إﻻ القلة فقط، وأنهم ينظرون إلى النجوم لتحديد وجهتهم في الصحراء، وفي تحديد مواسم الزراعة و و و، وبينما هو يسرد ذلك وعيني يداعبها الكرى، إذ بنار يحملها شخص طويل بدرجة عجيبة يخرج إلينا من خلف القرن (تل حجري)، وﻷن الظلام دامس والنار كبيرة فقد صمت الجميع وأخذنا ننظر إليه، فقال جدي رحمه الله عندما انتبه ﻻرتجافي ووضع يده على عيني: "هذا عمش علي يمزح معنا"، ولكنني كنت أريد متابعة المشهد فأبعدت يده الكبيرة بيدي الصغيرتين، وضع ذلك الشخص النار على الأرض ومال بجسمه عليها، دون أن يصرخ ألماً أو يبتعد، فصاح عليه جدي بصوت عالٍ تردد صداه في الجو مستخدماً لفظا عمانياً معروفًا لدينا: (حوه!)، وعندها حمل ذلك الشخص النار ومشى مسرعاً وكأنه لم يتوقع وجود أحياء في تلك الأنحاء، فما كان من جدي إﻻ أن حمل بندقيته وقال لعبد الله بن عوض الذي كان يرافقه كظله، هيا بنا هذا "روع"!، وأنا وزوجة عمي وطفلتها في حضنها نرتعد خوفًا ونحن ننظر إلى النار تتوارى وحاملها بين أشجار السمر، وعندما عاد جدي قال إنّه قص (اقتفى) أثره ولكنه لم يجد آثار أقدام بل كان يتبع بقايا النار في ذلك الظلام الموحش، حتى انتهى إلى سمرة كبيرة ووجد الباقي من النّار المطفأة على عجل!..
فضول الأطفال ليس له مثيل، فقد استبد بي الفضول لأعرف ماذا يقصدون بـ"الروع"، والتي كنت اسمعها تتردد لتخويفنا "جاكم الروع"، فعرفت مرة بأنّه حيوان ضخم له رقبة طويلة يحمل النار معه في كثير من الأحيان، ولكنه ليس لاحمًا، فغذاؤه النباتات، وعندما سألت هل هي الناقة، جاءني النفي المصحوب بنهرة مسكتة، وقيل لي أيضًا إنّه من الجان، جثة ضخمة تحمل النار، وكم كبير من الخزعبلات التي سمعتها لم ترق إلى مستوى تصديقي، وذلك بسبب ما رأيته تلك الليلة، ولكن اتفق الجميع بأنّ الروع يعيش وحيدًا ويتحاشى البشر نهائياً، وإنّه لم يبق منه إﻻ أعداد قليلة!!، ومعه كبر فضولي للتعرف على الماورائيات، والفضاء والنجوم والكواكب، لكنني لم أجد المجال الذي يمكنني الوصول إليه، ولكنني أحاول التعويض عن ذلك بالقراءة والاستمتاع بما أقرأ من معلومات.
ربما كانت تلك مقدمة لما أرجو أن نهتم به ونعززه لدى كل منِّا ولدى أطفالنا منذ نعومة أظافرهم، فقد لفت انتباهي وكتبت عنهن من قبل، طالبات مدرسة قباء اللائي حققن المركز السادس على مستوى العالم في مسابقة الروبوت، وملتقيات الإبداع ومهرجاناتها، واليوم قرأت عن طالب في الصف الثاني عشر وعن شغفه بالتجريب والابتكار مما جعله يخترع مكيفا للهواء ﻻ يحتاج للكهرباء بل يعمل بالبطارية، وكنت أشاهد أحد البرامج في إحدى القنوات الفضائية، وكان لقاءً مميزا مع مهندسة طيران خليجية، شابة صغيرة في مقتبل العمر، كان حلمها الفضاء والصواريخ منذ الطفولة، واليوم هي مالكة لشركة مشاعل للصواريخ في الوﻻيات المتحدة الأمريكية، وتترأس فريق في وكالة ناسا، تحدثت عن دعم أهلها، وسخرية زميلاتها ومجتمعها، لكنها أصرت فوصلت، أعي جيدًا أنّ هناك عدة جهات تهتم بالابتكار لدينا، ولكن ماذا بعد ذلك، وتساؤلي هو لماذا ﻻ تكون لدينا مركز متخصص للموهوبين؟ أولئك الذين أعطاهم المولى من القدرات العقلية ما يجعلهم يسبقون أقرانهم في سني الدراسة، حدد ولوج مؤسسات التعليم العالي لدينا بسن معين، ولكننا لا نختلف عن بلدان العالم، بلادنا وﻻدة، بها من الأذكياء والعباقرة الصغار في كل مجال، والذين يمكنهم تحقيق أعلى معدﻻت اختبارات الذكاء، كما يمكنهم أن يحملوا أعلى الشهادات العلمية وهم على عتبات العقد الثاني من أعمارهم، ويثرون بلادهم والعالم بل البشرية جمعاء بثرواتهم الفكرية والعقلية .
توقيع: حفظناها ونرددها "العلم في الصغر كالنقش على الحجر" ولكن هل نعيها!.