أمهات الحياة الجميلات

رحاب أبو هوشر

المرأة صانعة الحياة وحاميتها، هذا الكلام ليس عبارة جاهزة، نرددها على غرار "الحكم المأثورة"، وليس كلامًا مستهلكًا تردده نساء نكاية بالرجال. إنّها عبارة أنتجها تاريخ تطور المجتمع البشري، تتوارى لتبقى داخل البيوت في المجتمعات المتحققة، حيث تقل أعباء النساء وبالتالي أثرهنّ ودورهنّ، ثم تعود لتحضر بشكل صارخ، كلما تفسخ الواقع وازداد وجع الحياة وشظفها، وهل أقسى من واقعنا العربي حاليًا، وهل هناك بلاد مثل بلاد العرب، اجتمع فيها التخلف وفوضى الحروب والفقر. في بلادنا أصبحت جنازات القتلى خبرًا عاديًا "غير عاجل"، وصور النساء المفجوعات بجثث أولادهنّ وبناتهنّ شديدة العادية، والنساء اللواتي يقارعن الفقر ومرارة العيش، في الأسواق والشوارع، لا يثرن انتباه أحد.

للنساء دائمًا أكبر حصص الشقاء، لكأنهنّ منذورات لتطبيب قروح الحياة وترقيع ثقوبها، وليس مفاجأة أنهنّ يعملن بعزم ويكتشفن في أنفسهنّ قوة، لم يتح لهن واقعهنّ خيارًا إلا اكتشافها واختبارها!

ثمن الحروب الباهظ، أول من يدفعه النساء، يفقدن رجالهنّ، قتلى وأسرى ومفقودين ومعاقين، ويخسرن بيوتهنّ وأمانها، ويزيد فقرهنّ لفقدان المعيل. يصبح الحزن ترفًا مؤجلا، ولملمة بقايا الحياة مهمتهنّ العاجلة، ودورهنّ الأهم أن يقاومن عوامل الموت لكي تستمر الحياة. ومن تنجو منهن من قذيفة أو تفجير، تفر بالصغار بعيدًا عن المعارك. ثكالى وأرامل يصبحن أمهات وآباء معًا، عاريات إلا من الحاجة وإرادة الحياة والقدرة على اجتراحها. هذا ما حدث عبر تاريخ الحروب، وما عرفناه منذ نكبة فلسطين في مخيّمات الشتات، ثمّ مع احتلال العراق، وفي لبنان وحتى اللجوء السوري اليوم. السوريات في مخيّم الزعتري، أقمن في الخيام "صالونات تجميل" لكي يعملن ويؤمّن لُقمة عيش أطفالهنّ، وزرعن أشجارًا صغيرة لكي تخف وحشة الصحراء وثقل اللجوء، ويمنحن أطفالهنّ شعور البيت.

وتعيش النساء فقرًا وظروفًا معيشية لا تقل وحشيّة عن الحرب الدموية، إنّها حربهنّ أيضًا من أجل البقاء وحفظ الحياة. نساء مقهورات، لم ينلن حقهن في التعليم وفرص العمل، أو حقهن في اختيار أزواجهنّ أو نوع حياتهنّ، ووجدن أنفسهنّ وحيدات يعانين العوز مع عدد من الأطفال، إلى جانب زوج مريض أو لا يعمل، أو أرامل ومطلقات، أو مهجورات من أزواج، تخلوا عن أسرهم وهربوا، ومنهنّ فتيات صغيرات كبرن رغمًا عنهنّ وأصبحن أمهات لأسر كاملة.

لم تستسلم هؤلاء النساء المسحوقات لبؤسهنّ، وانطلقن للعمل بما لديهنّ من إمكانيات وقدرات مهما كانت بسيطة، لحفظ العيش والكرامة. منهنّ من يعملن من منازلهنّ، بإعداد المأكولات وبيعها، أو الخياطة والأعمال اليدوية. في موسم الربيع من كل عام، حيث تنبت نباتات برية، تنتشر نساء على الأرصفة، ينادين على بضاعتهن من أكياس الخبيزة والميرمية وما شابه، وغيرهنّ يعملن خادمات في المنازل، وفي الأسواق، نساء يقاتلن بأيديهنّ للحفاظ على زوايا بيعهنّ المعتادة ضد اعتداءات الباعة، يتاجرن بالخضار والطيور والخردوات، يتاجرن بكل شيء، وبعضهن يضعن أطفالهنّ الرضع جوارهن أثناء العمل! وفي مصر تعمل النساء سائقات لوسيلة النقل "التوك توك"، وفي أوجع الأعمال وأشقاها.

نساء من مختلف الأعمار، كان بإمكانهنّ الاستسلام للقهر والفقر، أو الهروب والتخلي عن مسؤولية الرعاية والتربية كما يفعل رجال عديدون، أو الرضوخ للذل بانتظار صدقات المحسنين، بل كان يمكنهن الانحراف نحو الجريمة، أو دفع الأبناء والإخوة نحوها للكسب بذريعة الحاجة. لم تذهب أولئك النساء إلى أي من تلك الخيارات السهلة، وكان انحيازهن واضحًا للعمل والكرامة، لانتزاع حقهنّ بإنسانيتهنّ، وللقتال من أجل الحياة، رغم مشقة قتالهن وآلامه. إنّهن يُقدمن الأمثولة للأبناء، في الكفاح وقيم الحياة الكريمة، ويحمينهم من الضياع والانكسار والمهانة، ويسعين لمنحهم فرصًا أفضل من فرصهنّ الشقيّة.

لولا أولئك النساء الجميلات، القويات، صانعات الحياة وحارساتها، ماذا كان سيحل بالأطفال؟ ماذا سيحل بجزء مهم من المستقبل؟

نعرف أشخاصًا كثر لامعين، سهرت على تعليمهم وتربيتهم، أمهات وحيدات، خبا نور عيونهن وهن يطرّزن الأثواب الشعبيّة، وانحنت ظهورهنّ على ماكينة الخياطة ليلا ونهارًا، للإنفاق على حاجاتهم ومسراتهم، وأخوات لم تقدم لهنّ الحياة خيارًا، إلا أن يقدمن أعمارهنّ لتربية إخوتهنّ وإعدادهم للحياة.

كل عام وأمهات الحياة بألف خير.

تعليق عبر الفيس بوك