دعم الاقتصاد المصري .. والعمل العربي المشترك

د . صالح بن هاشل المسكري

قبل أيام احتشد العالم بزعمائه وخبرائه وتجاره في منتجع شرم الشيخ بجمهورية مصر العربية ليقرروا مستوى دعم وتنمية الاقتصاد الذي تحتاجه مصر المستقبل، بعضهم تفجرت عواطفه بالوعود والكلام المحمود، وبعضهم توجه إلى المنصة ومعه دفتر الشيكات ليُعلن مباشرة وبالأرقام عن مبلغ الدعم الذي تقدمه بلاده لمصر مع تصفيق الحاضرين من عجم وعرب وكأننا أمام منصة مزاد علني ومباهاة للمِنة والإحسان على كرامة ومكانة أقدم حضارة عرفها التاريخ.

توالت المليارات وتعددت أشكال التقديم وأغراضه، وضيوف العرب من غربيين وشرقيين وأفارقة يتهامسون ويتغامزون حول ما يرونه أمامهم من مشاهد عربية ومبادرات فورية هل يا ترى واقعية، وهل هذه المليارات التي تساقطت على أرض المؤتمر تساقط المطر في شتاء المحروسة حقيقية، أم هي نوع من الاستعراض والمباهاة التي تذهب جُفاءً ثم عندما تعود الطيور إلى أوطانها ويحين موعد السداد تظهر حسابات جديدة ومعطيات أخرى، فالعرب سبق لهم أن رفعوا دفاتر شيكاتهم ووقعوها أمام عدسات التصوير في مناسبات كثيرة سابقة وتبيّن فيما بعد أنها شيكات بلا رصيد وأنها مجرد رقصة زار في حضرة الساحر، فلم تُعمّر سوريا رغم الستين مليار التي ذكرت في مؤتمر الشراكة عام 2012م، بل زاد خرابها وتعاظم دمارها، ولم تُعمّر العراق رغم المؤتمرات العديدة والمليارات التي عُرضت على طاولة المؤتمرات في عمّان، ولم تعّمر غزة في فلسطين ولا اليمن ولا لبنان ولا السودان ولا أيّ بلد من البلدان، بل تعمّرت أرصدة كبار المسؤولين في هذه الدول وامتلأت بملايين الدولارات في زمن قياسي، ثم تركوا مواقعهم ليحل محلهم آخرون يضحكوا على المزيد من المجانين، والشعوب العربية في هذه الدول كباسطِ كفّيهِ إلى الماء ليبلغ فاهُ وما هو ببالغه.

هناك دول أصبحت لديها الخبرة الاقتصادية الكافية لاقتناص الفرص واقتطاع أكبر حصة ممكنة من كعك مشاريع التعمير، وتدفع بشركاتها العملاقة لهذه المؤتمرات، فهي من جهة لديها الإمكانيات الفنية واللوجستية لدخول المنافسة، ومن جهة أخرى لديها الأفضلية لأنّها تحمل جنسيات الدول المقربة والمحببة لدى أنظمة الدول المستهدفة بإعادة التعمير ودائمًا الشركات الأمريكية والأوروبية هي الرابح الأكبر،مع القليل من الشركات الآسيوية والعربية وبالخصوص الشركات من دولة الإمارات العربية المتحدة التي استحوذت على عقود بأكثر من خمسين مليار دولار، وفي الحقيقة الساسة والتجار في الإمارات أصبحوا يتمتعون بذكاء استثماري عالي ويغامرون في أكثر المناطق خطورة، ولديهم الخبرة للفوز بالمناقصات العالمية، وليس بعيداً شركة إعمار العقارية وشركة اتصالات الإمارات التي أصبحت الآن تشغل نصف أفريقيا تقريبا وكثيرا من بلدان آسيا المتقدمة.

لكن يبقى السؤال الحائر ما هي الحكمة الكبرى من إعلان المساعدات على المنصات وأمام عدسات الإعلام هل هي نوع من استعراض القوة الاقتصادية والمكانة المالية للدول المانحة، وكيف يكون ذلك وأغلب هذه الدول تعيش على أجهزة اصطناعية اسمها مضخات البترول ولا تنتج لشعوبها أبسط مقومات الحياة الإنسانية فتأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تصنع، أم هي المدنية وعولمة المبادئ انحرفت بالأخلاق الإسلامية والعربية لتسلك مسلك المجاهرة والمفاخرة ونجعل من المنحة المستحقة مِنة يتبعها أذى.

وهل قلب عروبتنا النابض مصر كما أقنعنا بذلك أهل السياسة أنفسهم تستحق منِّا أن نسكب ماء كرامتها بهذه الطريقة لأجل أن نقيلها من عثرات تكالبت عليها عبر السنين وهي التي حملت عنّا وزر إخفاقاتنا وخطايانا الكبرى، وتصدت لقوميتنا الموهومة وقضيتنا الأولى المزعومة، أم هو الواجب والحق المستحق للمصريين الذين عاشوا أصعب الظروف وأكثرها قسوة مع العرب عمومًا والخليجيين على وجه الخصوص في بدايات نهضتهم وتنميتهم وتحملوا العيش في القرى المظلمة والأودية السحيقة والمناطق النائية الخالية من أبسط مقومات الحياة الإنسانية ليقفوا مع إخوتهم العرب ويعلموهم ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم.

لقد تربينا نحن كعمانيين على أنّ مساعدة الأخ لأخيه لا تحتاج إلى مكبرات صوت ولا إلى عدسات إعلام، وأن نترك الأفعال الحميدة تعبر عن نفسها بنفسها وفي الوقت المناسب، وما خروج طلاب العلم في الأزهر الشريف وطلاب فلسطين وسوريا وسكان المدن الفقيرة النائية في أفريقيا وآسيا التي لم نكن نعلم حتى نحن كعمانيين ما تقدمه قيادتنا من دعم إنساني وأخوي إلا دليل على ذلك، وقد خرجوا بتلقائية وعفوية ليعبروا بفطرة الإنسان عن حبهم وتقديرهم للعمانيين ودعائهم الصادق لجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه-.

لا مجال في تقديري للقول بأن ما يقدم للدولة المصرية هو من قبيل "العمل العربي المشترك" لأن هذه العبارة بتفاصيلها المضحكة قُبرت منذ سنين طويلة وقد شبعت موتاً وأظنها الآن تُعذب في جهنم، لأنّ هذه العبارة الفارغة تسببت في تسلّط الحكومات العربية وتمادت بسببها في إهانة الشعوب وسرقتها وأبقتها في مثلث الظلام الذي يكرس للجهل والفقر والمرض، هذه عبارة استمرأتها الأنظمة العربية وملئت بها صحافتها وساحات وميادين المدن الكبرى سنين من العزلة والهيمنة والشمولية ليكتشف المواطن العربي بعد عقود أنها مجرد شعار فارغ من أية مضامين وهو رديف للقومية العربية والوحدة العربية والتضامن العربي، التي في مجملها قشور مطتها ومصتها الأنظمة ثم بصقتها في الهواء ليلتقطها الإعلام الموجه ويلوكها بدوره سنين مظلمة حتى مل ثم ألقي بها بعد ذلك خالية من أية قيمة في مزابل التاريخ.

بعد تلك الحقبة العقيمة المظلمة للعمل العربي المشترك تأتي بعض الصحف العربية في العام 2015م لتذكرنا بهذه العبارة المزعجة التي امتسحت من ذاكرتنا نحن منذ سنين وليس لها مكان اليوم في فكر شباب الأمة، لتطل برأسها من جديد كمصطلح خالٍ من المصداقية ويناقض الواقع، فلا وجود لأي عمل عربي مشترك متحقق على الأرض، بل الموجود هو صدع عربي مشترك وتخلف عربي مشترك مع انقسام واضح للأنظمة الحاكمة تكرسه الفرقة والخلافات بين دول اعتدال ودول ممانعة، ودول ضد الأجنبي ودول مع الأجنبي، ومعسكر عربي هنا ومعسكر هناك، والجامعة العربية أو بيت العرب كما يحلو للبعض أن يسميها لا تملك حتى صحيفة تنطق بلسانها وتعبر عن واقع الأمة، وهي تقف بين المعسكرين كالمرأة الحسناء بين دميمين كل واحد منهما يشدها لناحيته ولا تملك المسكينة من أمرها شيئاً ثم يصفوها جميعاً بالضعف والعقم والتقصير.

العمل العربي المشترك الذي كما أسلفت مات منذ سنين وماتت معه متعلقاته من اتفاقية أمنية مشتركة وسوق عربية مشتركة وقومية عربية مشتركة وتعاون وتضامن عربي مشترك وغير ذلك من المفاهيم والأحلام الوردية، وحلت محلها المصالح العالمية المشتركة والاتفاقيات الأمنية السرية والمعلنة مع الدول الكبرى التي نجحت في ابتزازها وزرعت فيها الخوف والرعب والتخوين وعدم الثقة في الأنظمة العربية بعضها ببعض منذ حرب أيلول الأسود المشؤوم عام 1970م والى يومنا هذا، وأجزم أنه لا يوجد اليوم أي نظام عربي يثق في نظام عربي آخر خاصة تلك المتجاورة منها، وبالتالي كل نظام وقع اتفاقية حماية له مع قوة عظمى وجعل من جيشه الوطني مجرد شكل من أشكال الدولة للاستعراض وترهيب الشعوب، وتدفع الأنظمة مليارات الدولارات سنويًا قيمة العقد المبرم لحمايتها واستقرارها، مع تسابق محموم لاحتضان القواعد العسكرية الأجنبية لتخويف الجار، وتعيين الخبراء الأجانب الذين يديرون كل شيء من خلف الستار، ويضعون الإخراج النهائي للسياسات العليا للدول وتقرير علاقاتها وتوجهاتها الخارجية.. ثم تأتي بعد ذلك الصحف في الألفية الجديدة لتوهم أبناءنا كما أوهمتنا نحن في السابق بأكذوبة وخديعة كبرى اسمها " العمل العربي المشترك".

Sh-almaskry5@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك