عن أستاذ الجيل..

د. محمد بن حمد العريمي

الدّخول إلى عالم الأديب والمثقّف الاستثنائي الأستاذ أحمد بن عبد الله الفلاحي أمر في غاية الصّعوبة، بل هو أشبه بقارب صغير يقاوم تيّاراً قويّاً لا يستطيع الصّمود أمامه، كيف لا وأنا أتحدّث عن رجل كلّ موقف لديه بحكاية وقصّة. ما سيأتي من سطور قليلة ليس القصد منها التعريف بهذا العَلَم الكبير، ولا سرد شيء من سيرته، فالعارف لا يعرّف، والقاصي والدّاني يعرف جيّداً من هو أحمد الفلاحي، وما قيمته الفكريّة والأدبيّة والاجتماعيّة، وبماذا أسهم لمسيرة الحركة الثّقافيّة بالسّلطنة، وإنّما هي نماذج من مواقف يتجلّى فيها تواضع الأديب الكبير أقدّمها لنفسي أوّلاً، ولمن يرغب من زملائي كي نتأسّى بسيرة هذا الرجل، وتكون دافعاً لنا في مسيرتنا المستقبليّة الشّاقة في عالم الكتابة والبحث، مستفيداً من معلومات تضمّنتها حوارات أجراها زملاء ومجلات ومواقع فكريّة مختلفة مع الأستاذ في سنوات سابقة.

يذهلك الفلاحي دائماً بمواقفه الإيجابيّة مع الآخرين، فقد يراودك الشّعور يوماً باليأس من جدوى ما تكتبه، وعدم تفاعل الآخرين معه، مجتمعاً كان، أم مسئولين، أم مثقّفين، وقد تصل بك الأمور إلى حدّ الرغبة في ترك الكتابة، وما إن تلتقي به، سواء كان في مجلسه الأدبيّ في منزله العامر بالخوير 1/17، أو في أيّ محفل ثقافيّ تنظّمه إحدى الجهات المحلّيّة المهتمّة بمجالات بالفكر والثّقافة والأدب حيث ستجده حاضراً على الدّوام، إلا ويتبدّد ذلك الشعور بمجرّد رؤية ابتسامته الودودة الصّادقة، وترحيبه الحارّ، وإطراءه وثنائه على ما تكتب، بل ومناقشته لك في نقاط عديدة تضمنتها كتاباتك، وكلّ ذلك كاف كي يمنحك طاقة ايجابيّة هائلة، تجعلك تودّ الإسراع نحو أقرب ورقة، أو (كيبورد) كي تكتب مقالك القادم حتّى لو لم يحن وقت كتابته بعد، وأنت تسأل نفسك في ذهول: من أين يأتي هذا الرجل بكل هذا الوقت لقراءة كل ما يكتب على السّاحة! ولماذا (يتواضع) رجل كالفلاحي للقراءة لأمثالي في الوقت الذي (يتكبّر) فيه بعض أنصاف المثقّفين عن القراءة لغيرهم لحجج ومبرّرات واهية!!

ورغم مسيرته الحافلة بالإبداع والعطاء والتي بدأت منذ سنّ السابعة عندما قرأ كتب من أمثال "تلقين الصبيان" و"الجامع الصحيح" و"نونية أبو مسلم"، و"دلائل الخيرات"، و"السيرة الجامعة" وغيرها من أمّهات الكتب، والذي صدح حينها بصوته مترنّماً بقصائد طويلة كنونيّة أبي مسلم، والفتوحات لابن شيخان السالميّ، وقصائد "التوبات"، والذي كان شغفه بالمجلدات الضخمة السوداء يجبر والدته (رحمها الله) على أن تضعها في مكان مرتفع لا يتسنّى الوصول اليه لعلمها بمدى شغفه وولعه بها، مروراً بمحطّات فكريّة مهمّة كاختيار والده له في صباه كي يكون قارئ السبلة في سهرة الرجال في بلدته وما أدراكم بسهرات الرّجال ورمساتهم في عمان سابقاً! وحفظه للمعلّقات السبع كاملة، والنونيّة، وأراجيز الشّيخ محمد بن عيسى الحارثي، وقصيدة الشيخ السالمي البائيّة، وقصيدة ابن الرومي في الأوطان، وقصيدة ابن الوردي اللاميّة، وبائية أبي تمام، وقصائد للمتنبّي والنبهاني والستالي والشريف الرضي! واقترابه من أعلام عمانيّة وعربيّة كبيرة في مجالها كمحمد السالمي، وعبدالله الطائي، وإبراهيم العبري، وسالم بن حمود السيابي، وعبدالله بن علي الخليلي، وأحمد بن عبدالله الحارثي، وأحمد بن حمد الخليلي وعبدالله بن صخر العامري وهلال بن سالم السيابي، ومحمد حسنين هيكل، وقبّاني، والبردوني، وإبراهيم العريض، ونجيب محفوظ، والطيب صالح، وعبد الرحمن منيف، وعشرات غيرهم ممّن التقاهم وحاورهم، أو مّمن انغمس في قراءة فكرهم وأدبهم، وزيارته لكثير من دول العالم والتقائه بنخبها الفكريّة والثقافيّة، وعمله كملحق ثقافيّ في مصر والبحرين لأكثر من عشر سنوات حضر خلالها مئات من المحاضرات والندوات والمعارض وعروض المسرح والسينما والموسيقى، ومساهمته في ظهور مشروعات أدبيّة رائدة برغم كلّ التحدّيات التي واجهها كالثّقافة الجديدة، والغدير، وسعيه بكل جهده من أجل انشاء كيانات ثقافيّة تلملم شتات الأدباء وأرباب الثّقافة في عمان، كالنادي الثّقافي، والمنتدى الأدبي، وجمعيّة الكتّاب والأدباء، سواء بالمطالبة ومقابلة المسئولين، أو بالنّشاط الفكريّ والإشراف على مناشط تلك المؤسّسات، ومساهمته كمذيع في تأسيس الإذاعة العمانيّة، حيث صدح بصوته وفكره من خلالها لسنوات عديدة، وجوبه العالم بحثاً عن أيّ كتاب جديد يصدر هنا أوهناك، وتاريخ طويل آخر من سيرة لا تنتهي.

أقول إن الأديب الفلاحي وبعد كل تلك الرّحلة الطّويلة مع الإبداع والعطاء، إلا أنه يزداد تواضعاً كلّ يوم لدرجة تذهل القريبين منه والبعيدين كذلك، فعندما سأله الأديب يحيى بن سلام المنذري في حوار أجراه معه على صفحات مجلّة نزوى العدد 29 عن مشروعه لكتابة سيرته الذاتيّة كان ردّه ".. أسأل نفسي إن كان يحق لمثلي إصدار سيرة ذاتية وما أنا إلا مواطن عادي.."!!

هكذا ببساطه يرى الفلاحي نفسه لم يقدّم شيئاً يستحق كتابة سيرته الذّاتيّة برغم مشواره الحافل في وقت يعكف فيه أطفال في مجال الفكر والأدب على كتابة الأجزاء اللاحقة من سيرهم الذاتيّة!!

وعندما سأله كذلك حول عدم نشره كتاباً يضم مقالاته الكثيرة والمتعدّدة، أجاب: ".. ما زلت أتردد في الإقدام على خطوة كهذه لعلّني أتخوّف من ألا تكون هذه الكتابات في مستوى يؤهلها للنشر، ومازال الأمر قيد التفكير والنظر، وعلّني قد أغامر باختيار مجموعة منها تتقارب موضوعاتها بعد التشاور مع الأصدقاء".

أستاذ الجيل، وشيخ المثقّفين، وعريف قبيلتهم (كما وصفه أستاذ الأدب العربي الكبير أحمد درويش بذلك)، ما زال متخوّفاً بعد كلّ تلك المسيرة الثّقافيّة من ألا تكون كتاباته في مستوى يوؤّلها للنشر، وما زال يفكّر، ويعتبر الأمر بمثابة المغامرة!! أي أستاذي الكبير، أعرف أحدهم لم تتجاوز علاقته بالكتابة أشهر معدودة قد أصدر كتاباً يتناول فيه نظرته للحياة والمجتمع من خلال مقالاته!! وأعرف آخرين لم يصلوا الأربعين من العمر بعد تجاوز عدد إصداراتهم أصابع اليدين (والرّجلين ربّما!)، فمادام الأمر لا يتجاوز الحصول على عضويّة مؤسّسة ثقافيّة ما، وعلاقات هنا وهناك، وطباعة وتوزيع مجّانيّ، فلماذا لا يقوم أمثال هؤلاء بطباعة أيّ شيء يطرأ على بالهم!! هل سينتظرون لحين نضوج أفكارهم! هل سيقتفون مسيرتك الطّويلة مع الفكر والإبداع! أم أنّهم سيختصرون المسافة ما دام كلّ شيء قد أصبح متاحاً و(مباحاً)!!

ولطالما كنت أتباهى بين أصدقائي المقرّبين بقدرتي على قراءة كتاب بأكمله في ليلة واحدة، إلى أن كنت يوماً ما في مجلسه العامر، وحانت منّي التفاتة إلى بعض الكتب المصفوفة بجانب المسند القريب منّي، وعندما بدأت في تصفّحها مستغلاً انشغال الأستاذ بحديث هاتفيّ، إذ بي أفاجأ بكثرة الحواشي والملاحظات والتعليقات والتعقيبات التي خطّها (الأستاذ) على هوامش تلك الكتب، علماً بأنّها في مجالات متعدّدة، وعلماً بأنّها كتب مطبوعة، أي أنّها تجاوزت مرحلة التّحكيم أو الإجازة للطّباعة.

هنا فقط وجدت إجابة لتساؤل كنت أطرحه على نفسي في كلّ مرّة ألتقي بها أستاذنا: من أين يأتي بكلّ ذلك التّدفّق المعرفي الهائل! وهنا كذلك أدركت الفرق بين المثقّف الحقيقي الذي يشتغل جيّداً على ثقافته، وعلى ما يملكه من مخزون فكريّ، وبين من قرأ سطراً من هنا وآخر من هناك وانبرى لينصّب من نفسه كاتباً وباحثاً ومفكّراً!!

أي أستاذي الكبير.. إذا كان الآخرين لديهم طه حسين، أو ميخائيل، أو إيليا، أو العقّاد، فنحن لدينا أحمد الفلاحي. هم قامات طوال في مجال الفكر والأدب، وأنت لا تقلّ عنهم شأواً وشأناً لدينا. تكفي بصماتك الشّاهدة على كلّ انجاز فكريّ تمّ تحقيقه في هذا البلد، يكفي كلّ الأجيال المتعاقبة من المبدعين الذين تخرّجوا على يديك، يكفي مجلسك الأدبيّ العامر الذي يعدّ مدرسة فكريّة رصينة لا تقلّ أهمّيّة عن المدارس العمانيّة الفكريّة التي أنجبت أعلاماً مازال فكرهم يعطّر المجتمع بشذاه. ستظلّ رقماً صعباً ومهمّاً وعلماً شامخاً في مسيرة الثّقافة العمانيّة التي لم ولن تتوقّف، وسأظلّ أأمل أن أصحو يوماً ما على قاعة أو مكتبة أو مدرسة قد كتبت باسمك، أو أطروحة علميّة تناقش شيئاً من فكرك، أو تلامذة مدرسة يتحلّقون لدراسة سيرتك، فهذا أقلّ القليل لحفيد سحبان والمبرّد وابن دريد والسّتاليّ والبهلانيّ والخليليّ ومن أتى قبلهم أو بعدهم من ربابنة الفكر العماني.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة