عيون المزن

عائشة البلوشي

الماء.. ونحن نعرف ما هو الماء، وكلما عاشت منطقة في محافظة مسقط أزمة انقطاع المياه طفحت على السطح التحليلات والتأويلات، وعندما عاشت "المعبيلة" أزمة انقطاع الماء لأيام عدة خلال الأسبوع الماضي، عاش المواطنون معاناة شديدة جدًا، بين شح المياه العذبة وبين المغاﻻة في أسعار صهاريج الماء، وﻻزلت أكرر حديثي عن مصدر الحياة المهم، وضرورة إيجاد مصادر مياه مستدامة أخرى إلى جانب مياه البحر المحلاة.. ويتسابق المغردون على حسابات منتسبي هيئة الأرصاد الجوية، على أمل الحصول على معلومة عن الحالة الجوية القادمة، وتجدهم جميعاً بلا استثناء يردون بدماثة خلق وبكل لطف على هذا، وبنادرة تجبرك على الابتسام على ذاك، وينشط الجميع على محرك البحث ليجدوا خبرًا عن الغيث القادم، من مجموعات الطقس والمناخ وغيرها، وتجد الكثير ممن ينتظر النشرة الجوية مساء، وتنتشر بيانات هيئة الأرصاد بسرعة الضوء بين مواقع التواصل الاجتماعي، وتكثر الاجتهادات، والتكهنات رغم التوعية المستمرة بأخذ المعلومة من قنواتها الرسمية..

هذا هو حال العماني مع الغيث منذ القدم، ينشرح صدره وتنفرج أساريره عند رؤيته للمزون تلوح في الأفق، و"الشلي والبلي" و"العقربي" و"عشر الخادم" و"جرفة صفر" و"الغرقة" كلها مصطلحات لمواسم مطرية ﻻ يعرفها الجيل الحالي، وبنظرة في النجوم وحساب الوقت ورؤية جبال السحب، كان النّاس قديمًا يلجؤون إلى كهوف الجبال لعلمهم بأن السيل قادم، فلا يغامروا بالبقاء قرب بطون الأودية أو مجاري الشعاب، وﻻ أدل على ذلك سوى آثارهم التي وجدناها اليوم في أماكن مرتفعة وآمنة، وﻻ أنسى الحكاية التي تكررها جدتي على مسامعي حتى اليوم عندما تسمع عن جرف الوادي لشخص أو دخول المياه في منازل البعض، قالت: دار جدال بين النّار والماء والريح عن أيُّهم الأقوى، فقالت الريح أنا الأقوى ﻷنني إذا عصفت اقتلعت الأخضر واليابس وقضيت على كل بيتٍ، فقالت النّار حسبك أيتها الريح بل أنا الأقوى، فلا نجاة من لهيبي ﻻ لبشر وﻻ حيوان وﻻ شجر، فقال الماء: إحم إحم!، فصمتت النار والريح، فالماء قوة مدمرة وقدرة إلهية معمرة..

اختفت تلك المصطلحات فاليوم أصبحنا نسمع عن الأخدود وعن المنخفض وعن العاصفة المدارية والأنواء، وأصبحنا ننظر في القراءات العددية والحسابات وننتظر المحللين، وﻷننا تجرأنا على الطبيعة وبنينا المساكن وأقمنا بعض المشاريع في الأودية، أصبحنا نرى المآسي، وكما أسلفت في مقال سابق بأن تجربة الاستمطار الصناعي التي تنعمنا بنجاحها وإن كانت النسبة لم تصل إلى العشرين في المائة في عام 2013م، ولكننا لمسنا نتائجها التي أعادت لنا بعضًا من تمورنا، ومواسم زراعة البر، وعسى أن تستمر هذه التجربة وتتوسع، وبارك الله في من قام على الفكرة وتابعها وانتقاها واختار أماكنها بعناية وحرص شديدين، وجزاه الله عنَّا خير الجزاء، فقد أخذ بالأسباب ليحي الأرض بعد موتها، وما أروع صوت أبو نورة وهو يشدو برائعة بدر شاكر السياب "أنشودة المطر" والتي يكون لها وقع خاص في النفس عند أول الغيث...

(وجعلنا من الماء كل شيء حي).، ما أعجب وقع الغيث على الأرض والشجر والنفوس، يبعث الحياة في كل شيء، ليلة الخميس الحادي عشر من مارس 2015م، هملت عيون الغمام بشرا بإذن ربها، وازدانت خدود الأرض بغيث مغيث، همل وابل ليغيث القلوب والدروب بالرحمة ويكسوها بالبياض، وﻷنني عاشقة لقطر السماء خرجت إلى حديقة المنزل ﻷقف تحت تلك الرحمة المهداة، ﻷتشبع بالتفاؤل بقرب الوصول، وقرب اللقاء، وقرب الفرح، فأحسست بروحانية الأجواء تلفني، وبأنني استجمع إحساس كل عماني وعمانية فتراءت أمامي صورة سيدي وموﻻي - حفظه الله ورعاه- وشفاه وعافاه، وﻷنّ الوقت هو من الأوقات التي يستحب فيها الدعاء ويستجاب بإذن الله، فقد أسررت لربي ما بقلبي، وأحسب أنّه في قلب كل عماني، ففي أوقات سقيا الرحمة تعتمر الفرحة القلوب، فكان الدعاء لساكن القلوب ولعمان وشعبها الأبي المخلص، وأسأل الله القبول.

توقيع: "حتى الثرى يسأل الثريا: متى يعود سلطاني لتسعد به كل ذرة على أرض الوطن."

تعليق عبر الفيس بوك