علي بن مسعود المعشني
لا نحتاج حين نتحدث عن التعليم للتذكير بأنّه فريضة في الإسلام وأنّه نور يطفئ دياجير الظلام والجهل، ولا نحتاج كذلك إلى التذكير بأنّ التعليم هو التنمية الحقيقية الشاملة لأيّ وطن وهو الحاضن للأخلاق والقيم، وهو الباعث للقيادات والمبدعين في حياة الشعوب والمجتمعات بدءًا من الأسرة ووصولًا إلى رأس السُلطة.
فحين طالب البرلمان الألماني قبل أشهر بتقليص الإنفاق العام للدولة بمبرر التقشف رفضت مستشارة البلاد ميركل أن يشمل التقليص قطاع التعليم، وقالت إنّ التعليم هو أنا وأنت والمسؤول الناجح والأم القديرة، والابن النجيب، وبالتالي فإنّ أيّ مساس به يعني قلب الموازين والمعايير الأخلاقية والتنموية في أيّ مجتمع واستباحتها والعبث بها.
وحديثنا هنا في هذه الأسطر العابرة، سينحصر في كيفية النهوض بالتعليم في وطننا العزيز، وعصب هذا النهوض يكمن في توفير الأموال اللازمة، ودفقها في شرايين التعليم ومكوناته وعناصره بسخاء واستمرارية، إذا كنّا نرغب بالفعل في التنمية الحقيقية لبلادنا ونسعى جادين إلى بناء الإنسان كمحور وأساس لهذه التنمية ولا شك لدينا في ذلك. فقطاع التعليم يستقطب أكثر من 50% من المنتسبين لقطاع الخدمة المدنية في السلطنة، ويُشرف هذا القطاع على أكثر من 25% من إجمالي سكان السلطنة من عمانيين ووافدين، ويمتلك هذا القطاع ما يصل إلى 25% من الأملاك والمنشآت العامة للدولة. من هنا تأتي أهمية النظرة المادية المجردة من كل شيء لهذا القطاع العريض والهام، ثم التفكير بكيفية تطويره والنهوض به وخلق موارد مالية مستقلة له، تخفف الإنفاق التصاعدي عن كاهل الدولة، وتتيح له النمو التصاعدي والأفقي بمعزل عن وصاية الدولة وتذبذبات الموازنات السنوية والخطط الخمسية. في تقديري الشخصي، آن الأوان للتفكير الجاد في تحويل هذا القطاع الهام والكبير إلى قطاع إنتاجي يسير نفسه ذاتيًا، ويحقق النمو والاكتفاء لنفسه، والرضا الوظيفي والإبداع لمنتسبيه. ولن يتأتى ذلك إلا عبر إشهاره كهيئة وطنية عامة تُشرف على قطاع التعليم في السلطنة بجميع مستوياته وأنواعه، وتسيره وفق نظام الهيئات في نمط العمل وجداول الرواتب والعلاوات والبدلات، إضافة إلى إشهار صندوق تقاعد خاص به، يعمل على تنظيم التقاعد وضبط وتيرته، وخلق مبادرات - من وفورات استثماراته - تعزز من حظوظ المنتسبين للقطاع وترفع من سقف رضاهم الوظيفي وتحقق لهم الأمن المالي. لاشك أن تخصيص 85% من الموازنات السنوية في قطاعات التعليم للمصروفات المتكررة اليوم، هو إخلال منظم وكبير بهذا القطاع ومنظومة التعليم والمال العام كذلك، فمن المنطقي أن تتحول هذه النسبة إلى موازنة تنموية للقطاع وما تبقى مصروفات متكررة وليس العكس. على كل حال، لابد لنا من بعض الجراحات في هذه المرحلة لتقويم الأعوجاج في قطاع التعليم والذي أصبح حديث الجميع وشغلهم الشاغل وبلا استثناء، وأولى هذه الخطوات كما ذكرنا إعادة هيكلته في هيئة عامة تشرف على جميع مراحل التعليم وأنواعه، بما فيها حتى التدريب المهني وربطه بالتعليم التقني لرفع سقف التخصصات الفنية وتحسين جودة المخرجات، ورفع سقف طموح الشباب كذلك. وأن يتم تقسيم هذا القطاع بداخل هذه الهيئة المقترحة إلى ثلاث مراحل:
= مرحلة التعليم الأساسي: وتُحصر مناهجها في علوم الشريعة وعلوم اللغة العربية والحساب، مع جرعات من قيم المجتمع وآدابه وأخلاقه وموروثاته الحميدة، وتُعنى بالصفوف الخمسة الأولى من التعليم (1- 5) أساسي. خاصة وأن النظريات التربوية خلصت إلى أنّ التلميذ في هذه المرحلة وهذا العمر يعتبر خامة يسهل عجنها وتطويعها وغرس ما يثمر فيها وما يُراد له ومنه مستقبلًا، وعلى رأس ذلك القيم والأخلاق والثوابت، ليصونها ويفخر بها وتعصمه من الغزو الثقافي والانبهار أو الذوبان في الآخر مستقبلًا، وتغرس ثمار المواطنة الحسنة والوطنية الصادقة، فبعد هذه المرحلة وهذا العمر ينظر الطالب والتلميذ إلى تلك القيم والثوابت نظرة تعاطف لا نظرة عقل ومحبة، وهذا ما نقع فيه دائمًا، حيث نُخرج الطالب من مؤسساتنا ووفق مناهجنا الحالية، بحصيلة قناعات "تُخيره" بين أن يكون عربيًا عُمانيًا مسلمًا، أو لا يكون فله الخيار!!.
= مرحلة التعليم العام: وهي من الصف السادس ولغاية الثالث ثانوي، وفيها يخضع الطالب لجملة أوسع من العلوم والمعارف لتهيئته للحياة والعمل.
= مرحلة التعليم العالي: الدبلوم والشهادات الجامعية الأعلى.
= التعليم التطبيقي والتدريب المهني: حيث لابد من مراجعة وتقويم هذا القطاع ليتكامل ويشتد عوده وتتحسن جودته وتتنوع مخرجاته.
كما لابد لنا من تحديد هوية التعليم الخاص بجميع مراحله وأنواعه، من حضانة وتحفيظ قرآن ومدارس إلى الكليات والجامعات الخاصة، لنقرر ما إذا كان هذا التعليم مكملًا للتعليم العام أم منافسًا له؟ ففي كل إجابة خطط ومشروع مستقل . فالوضع الحالي للتعليم الخاص وفي حقيقته، لا مُكمل ولا مُنافس للتعليم العام في السلطنة، بل أقرب إلى دور تحصيل وتجارة، ومعيق للتنمية البشرية وخططها، ويُنذر ببطالة مقنعة وتكدس مخرجاته في القريب العاجل نظرًا لغياب التوجه والتوجيه، ولتطابق التخصصات ومحدوديتها. وللعلم، يمكن إعادة تنظيم وتطوير المدارس الخاصة والحضانات ومدارس تحفيظ القرآن الكريم، أن تتشكل حواضن هامة للتعليم الأساسي، تكون الحكومة طرفًا فاعلاً وهامًا فيه، بالدعم والرقابة والتوجيه، مع الإبقاء على منافع الناس وعدم المساس بجهودهم وطموحهم المادي. وذلك عبر دمجهم في هيئة عامة هي أقرب إلى شركة مساهمة عامة مغلقة على ملاك هذه الأنشطة، وتقدم لهم الدعومات المالية والتمويلية مع تخصيص أراضٍ لائقة، والإشراف المباشر على المناهج واشتراط الأنشطة المكملة والجاذبة للطلاب وأولياء الأمور وتصميم المباني ولوازمها المدرسية، وترك هامش حركة تنافسية بين تلك المؤسسات والتعليم العام.
وجه جلالة السلطان المعظم - حفظه الله ورعاه - وأمر بتخصيص الخطة الخمسية التاسعة (2016- 2020م) لتنمية الموارد البشرية، وبما أننا على عتبات تلك الخطة، فحري بنا اقتناص هذه الفرصة التاريخية للتوجه نحو التعليم والارتقاء به كون التعليم هو عصب التنمية البشرية للشعوب والتنمية الشاملة للأوطان.
وذلك عبر تخصيص مبالغ مجزية خلال سنوات الخطة لتعزيز قطاع التعليم بأذرع استثمارية ترفده تدريجيًا لتخرجه من عباءة الإنفاق العام في مرحلة لاحقة وفق مخطط زمني مرسوم ومحدد. يضاف إلى ذلك، أهمية السماح للهيئة المقترحة باستغلال الممكن من الأملاك العامة الخاضعة لها بصور تجارية تعود بالنفع المالي ويعاد تدويرها في المناطق التعليمية بالتساوي ووفق الحاجات للارتقاء بالبيئة المدرسية وتحسين جذبها وجودتها. كما يمكن للجهات الحكومية الأخرى (وزارة الشباب والرياضة، البلديات، الزراعة) القيام بأعمال إنشائية مهمة تخدم المدرسة والمجتمع معًا، كالملاعب والألعاب بأنواعها والتشجير والنظافة العامة، وغرس قيم الزراعة والإنتاجية ومفهوم الأمن الغذائي. ولا ننسى أنّه بوجود هكذا بيئات مدرسية نموذجية ومتعددة الأنشطة، يمكن بيع بعض تلك الخدمات للراغبين من التلاميذ والطلاب، في التمتع بقاعات متعددة، إلى تنمية مهارات تعليمية أو فكرية أو رياضية، مرورًا بالغذاء الصحي أثناء ساعات الدراسة، بأسعار مدروسة وتشجيعية لا تثقل على أولياء الأمور.
قبل اللقاء: "شيد جامعة تُغلق سجنًا"، ليس لأن المتعلم أكثر تقوى، بل أكثر وعيًا وإدراكًا من غيره بما يفعل ويسلك. وبالشكر تدوم النعم.
Ali95312606@gmail.com