مريم العدوي
قبل عدة عقود من الزمان كان مقياس الذكاء المعتمد تقليدياً يستند على قدرة المرء على الحفظ أو اجتياز اختبارات معينة، ولكن ومع تقدم العِلم بات الذكاء الحقيقي يكمن في كيفية استخدام هذا الذكاء، بل وفي الوعي بوجوده.
تعتبر نظرية (الذكاءات المتعددة) التي أسس قواعدها هوارد جاردنر من النظريات المفيدة، التي تُمكن الفرد من معرفة نقاط قوته وضعفه وبالتالي تمنحهُ وعياً بذاته وقدراته مما يزيد من قدرته على الإنجاز. وتشمل هذه النظرية تسع قدرات، وهي: الذكاء المنطقي واللغوي والفضائي والموسيقي والطبيعي والحركي والذاتي والاجتماعي وأخيرا العاطفي.
وبهذا توجه العالم نحو مبدأ جديد وهو أن الذكاء لا يكمن في الإنجاز الأكاديمي وحسب، وكما هو من الملاحظ في حياتنا اليومية، وجود الكثير من الأشخاص الذين يحملون شهادات أكاديمية ولكنهم غير محظوظين بسبب افتقارهم لمقومات الشخصية والحضور/ الكاريزما، بينما هناك من الأفراد من استطاع أن يعوض عن نقص قدراته ومهاراته في الجانب الأكاديمي بفضل امتلاكه ذكاءً من نوع
آخر ألا وهو الذكاء العاطفي وبالتالي استطاع القسم الثاني من الأفراد التقدم والتفوق على القسم الأول. كان ثورنديك أول من وضع مفهوم الذكاء العاطفي عندما تحدث في عام 1920م عن مفهوم الذكاء الاجتماعي والذي عرفه (بأنه التصرف الحكيم في العلاقات الإنسانية)، ومن ناحية أخرى فإن الذكاء العاطفي/ الوجداني أو ذكاء المشاعر هو: المهارات التي يتم استخدامها في فهم وإدارة العاطفية بفعالية تجسد العاطفة ككيان مستقل عن الإرادة والإدراك في حين أن الذكاء يتعلق بالإدراك. بينما يرى دانيل جون مان (صاحب أول كتاب في الذكاء العاطفي عام 1995م) أن ذكاء المشاعر هو: مجموعة من القدرات مثل التمكن وتشجيع الذات والإصرار رغم الإحباط والتحكم في الاندفاع وتأجيل الاشباع والتحكم في المزاج الشخصي وعدم السماح للإكتئاب بتشويش التفكير وتقمص مشاعر الآخرين والأمل.
وللذكاء العاطفي عدة جوانب وهي:
1- وعي المرء بذاته / فهم الذات، وذلك من خلال إدراك المبادئ والقيم والأهداف وإدراك مشاعر الذات واستخدام الحدس بالشكل الصحيح. ومن ثم التعامل معها بإيجابية من خلال المرونة والتفاؤل والإبداع والمبادرة والتحكم بالمشاعر والانسجام الداخلي والثقة بالنفس والتصميم.
2- القدرة على فهم الآخرين/ الوعي الاجتماعي، بإدراك مشاعر الآخرين وكذلك التعامل معها بإيجابية من خلال: التعاطف والتعبير عن المشاعر والخلاف البنّاء والتواصل مع الآخرين والثقة بهم.
يتحكم الجانب الأيمن من الدماغ بهذا النوع من الذكاء. كما يتميز الذكاء العاطفي عن العقلي بأمرين هما:
أن هامش التطوير في الذكاء الوجداني أوسع بكثير من هامش التطوير في الذكاء العقلي. وكذلك تأثير الذكاء الوجداني على نجاح الإنسان أكبر بكثير من تأثير الذكاء العقلي.
لقد أثبتت الدراسات الحديثة في مسألة العقل والعاطفة والأحلام أننا نفكر بعواطفنا وأن الذكاء هو ذكاء العاطفة وليس العقل وأن الأذكياء جداً، عاطفيون جداً أو العكس وأن قلوبنا تسيطر على عقولنا وتحدد طريقة تفكيرنا!
ولقد شملت مظلة الإسلام الشاملة هذا النوع من الذكاء، حيثُ جاء الإسلام مخاطبا العقول والقلوب على حد سواء، بل ولقد كان حظ الإسلام من الوعي بالذكاء العاطفي كبير، ومن الأدلة التي تجعلنا نقف على عتبات هذا الباب قول الله تعالى:
(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) ،الشمس : الآية 9 ـ 10
وقوله سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) سورة آل عمران ، الآية 159
فما النفس سوى مجموعة من المشاعر التي تتحكم في أفعال الإنسان وتزكيتها هي الأفعال التي تشذب من وعي تحركاتها حسب الآية الأولى. بينما يدعو الله في الآية الثانية رسوله الكريم إلى مخاطبة قلوب الناس قبل عقولها باللطف واللين.
ومن جانب آخر فإن السيرة النبوية زاخرة بالدلائل التي تشير إلى الذكاء العاطفي الذي امتلكه القائد العظيم للأمة الإسلامية الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فرغم قلة عدد مناصريه في بداية الدعوة إلا أنه استطاع أن يجمع شمل المسلمين بقلبه وبالمبادئ التي كان يسير عليها كمبدأ (المؤلفة قلوبهم). وفي الحديث النبوي الشريف عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه) هكذا علم سيد البشر النّاس أبجدية العاطفة.
فمن شأن الذكاء العاطفي أن يسهم في إنجاح العلاقات الزوجية والأسرية بل ويمتد أثره على بيئة العمل؛ فالموظف الذي يمتلك الذكاء العاطفي يستطيع التكيف في بيئة العمل مهما كانت بل وسيخلق البيئة التي يرغب بالعمل فيها.
ثمة علاقة واضحة بين الذكاء العاطفي والذكاء الأكاديمي إذ أن تحقق الأول من شأنه أن يساعد في تنمية الثاني. فعندما يتعرض الإنسان لضغوطات نفسية كثيرة كالقلق والخوف وما إلى ذلك فإنّ ذلك يؤدي إلى إرهاق الذاكرة العاملة التي تلعب دوراً أساسياً في عملية التعلم واسترجاع المعلومات من الذاكرة طويلة المدى ومعالجتها. وبالعكس، أما البيئة الآمنة المستقرة فمن شأنها أن توفر للذاكرة العاملة إمكانية أكبر للتعلم واسترجاع المعلومات ومعالجتها وتخزينها، الأمر الذي يؤدي إلى تعلم أفضل، وبالتالي فإن الطالب الذي يتمتع بذكاء عاطفي يكون أكثر قدرة على المثابرة وتحمل المسؤولية والنجاح والتفوق. وحسب جاك ويلش: "يمثل الذكاء العاطفي ما نسبته 85% من أسباب الأداء المرتفع للأفراد والقياديين و15% للتحصيل العلمي والشهادات والتي تعبر عن ذكائه العقلي." ولذا علينا كمربين ومعلمين وآباء وأمهات أن لا نترك فرصة إلا ونحاول تدريب أولادنا على تنمية مهارات الذكاء العاطفي؛ وذلك لضمان مستوى مناسب من هذا النوع المهم من الذكاءات المتعددة وألا نتركه لمجرد الصدفة.