هذه خطيئتنا الكبرى.. لم نُدرِّس التاريخ لأبنائنا

د. سيف بن ناصر المعمري

ما حدث الأسبوع الماضي من استثارة للمشاعر التاريخية العمانية.. من خلال المقال الذي نشر .. حول الرموز التاريخية العمانية التي يجب ألا يقترب أحد منها .. وما ترتب عليه من بعض نقاشات على شبكات التواصل الاجتماعي ..أعتبره مجرد محاولة لتحريك مياه الذاكرة التاريخية العمانية الراكدة ..وهي تأتي في سياق مشحون . فيه استغلال للعاطفة التي تنفعل بشكل سريع مع التاريخ.. فالواقع لا يمكن أن تجزئ الجغرافيا السياسية الحديثة قصته المتصلة...ولا تستطيع تصريحات أن تمحو ما دوِّن حوله في كتب التاريخ لقرون عدة.. ..نحن- وإن غاب الوعي-غصنان ينتميان إلى جذر واحد .. وإن تقسمت الأغصان لا يمكن تقسيم الجذر الذي أصبح راسخا في الذاكرة الإنسانية ..لذا يجب أن نحذر من الدوافع التي تقف خلف كل هذه المحاولات المتكررة لاستثارة انفعالاتنا حول التاريخ ..الذي بدأت قصته هنا ...لكن تفاصيلها متناثرة هنا وهناك ..وهذا يمثل مصدر قوة وفخر لنا لأن تاريخنا وثقافتنا لا يزالان ممتدين في أماكن كثيرة..ومن المعروف أن التاريخ والثقافة دائماً ما تكون عابرة للحدود وبالتالي لا تكمن المشكلة هنا إنما تكمن في التفاصيل المجهولة لأبناء عمان قبل أن تكون مجهولة للآخرين ..والأحرى بنا ألا نكون أصحاب ردات فعل ..لكن يجب أن نكون أصحاب فعل في بناء الذاكرة التاريخية للأجيال العمانية..هذه مهمتنا.. ومسؤوليتنا التاريخية التي لا يمكن أن نتخلى عنها.

مشكلتنا الرئيسية أننا نجهل تاريخنا ..نجهل من نحن في هذا العالم.. وقد يجادل البعض في هذا الادعاء.. وينفعل، وسيكون هذا طبيعياً في الشخصية العمانية المعاصرة التي تؤمن أنها تتكئ على تاريخ مهيب، وحضارة ضاربة جذورها في التاريخ الإنساني..لكنها لا تعرف من هذا التاريخ إلا النزر اليسير الذي سمعته هنا أو هناك، أو تعلمته في كتب الدراسات الاجتماعية المدرسية .. وبالتالي نجد أنفسنا أمام تاريخنا مجرد أقزام تقف في مواجهة عملاق كبير هادئ لا تستطيع الإحاطة بأسباب ضخامته...ولا بمكامن القوة فيه، وهذا ما يدفعها إلى أن تدير ظهرها له..ولا تلتفت إليه إلا عندما ينجح البعض في استفزازه ..مما يجعله يثير جلبته ..عله يلفت انتباه أحدهم ..وهذا ما يحدث الآن بالفعل ..

نحن أقفلنا أبواب التاريخ في وجه كثير من الجيل العماني الحالي ..عندما لم نجعله محور مهما في الدراسة سواء المدرسية أو الجامعية، فما يدرس بالفعل عن التاريخ العماني ..طوال مراحل الدراسة سواء الآن أو في الماضي كان مجرد حقائق تاريخية بسيطة لا تتناسب والتاريخ العماني، فعندما كنت طالباً أذكر أن منهج التعليم العام كان يركز باختصار على مواضيع محددة جدا هي "حضارات عمان قبل الإسلام"، و"دخول أهل عمان في الإسلام"، و"الغزو البرتغالي وقيام دولة اليعاربة"، و"قيام دولة البوسعيد، مع تركيز على فترة السلطان سعيد بن سلطان"، كان العرض مجرد عرض حقائق جامدة ..دون وضعها في سياقها التاريخي وتأثيراته المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية.. وبالتالي قمنا بطريقة مقصودة وغير مقصودة بالرسم في أذهان هذه الأجيال قصة جدا بسيطة عن تاريخهم، وقطعنا بذلك صلتهم مع كثير من مصادر وأحداث ومسيرة الحضارة العمانية التي لو أردنا كتابة كل تفاصيلها سنحتاج وقت كبير جدا، وعندما أعدنا وضع مناهج جديدة لم يختلف الأمر عن السابق، وعلى يقين تام أن ما يجري الآن من وضع منهاج جديد لن يكون للتاريخ العماني فيه نصيب أكثر مما حظي به من قبل، وعلى مستوى التعليم العالي لا يختلف الأمر حيث لا تزال بعض المؤسسات تعطي متطلبا جامعيا بعنوان "تاريخ عمان والحضارة الإسلامية" بوزنه (3) ساعات، لا يغطي إلا النزر اليسير من هذا التاريخ، مما يحرم الطالب في هذه المرحلة المهمة من تكوين صورة واضحة عن مسارات هذا التاريخ، مما يستنهض بداخله الدافعية الخلاقة التي تسعى إلى مواصلة صناعة هذا التاريخ، بدلاً من الشعور بتأنيب الضمير تجاه التقصير نحوه.

نحتاج إلى إعادة النظر في نظرتنا لتاريخنا على أكثر من مستوى، فالمؤسسات التربوية لابد أن تبني منهجاً تاريخيًا مناسبًا وحقيقياً ومتصلاً، فلا يعقل ألا يدرس الطالب في مختلف مراحل الدراسة خريطة عمان التاريخية والامتداد الذي وصلت إليه خلال العصور المختلفة، سواء نحو شرق أفريقيا، أو في الساحل الشرقي لإيران، أو في الخليج حيث كان الساحل يطلق عليه "الساحل العماني" هذه التسمية التي لا يعرفها كثير من طلبتنا ..مع أن كثيرا من كتب التاريخ لا تزال تستخدمها اليوم .. -ونأمل أيضًا أن تعيد الحكومة استخدامها بشكل رسمي بدلاً من مسمى "بحر عمان"- ومن المجحف إلا يدرس الطالب عن أهم الشخصيات العمانية عبر التاريخ سواء كانوا سياسيين أو اقتصاديين أو علماء أو بحارة، ومن المجحف إلا يعرف الطالب عن حكايات الموانئ العمانية صحار ومسقط وصور وقلهات ومرباط وما قامت به من صناعة التاريخ في منطقة المحيط الهندي، ومن المجحف إلا يعرف الطالب كثيرا من الأحداث التاريخية، التي تبني بداخله ذاكرة تاريخية حية ..لا تحتاج إلى من يستثيرها لأنّها ثابتة .. فهل ستجعلنا هذه المرحلة نعيد النظر في تدريس التاريخ العماني كما يجب أن يدرس؟ أم أنها ستكون مجرد انفعالات تنتهي بانتهاء مفعولها؟

إن تصالحنا مع تاريخنا يتطلب منّا عمل الكثير ..سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات وفق ثلاث مسارات، هي أولاً الحفظ وهو حماية ما هو موجود من تاريخ .مادي أو غير مادي من التدهور أو الإهمال، أو الهدم لأيّ سبب كان فهناك كثير من الحارات والبيوت القديمة في مختلف المدن العمانية تهدم اليوم من أجل إقامة بيوت حديثة، وما جرى لسوق الحافة التاريخي يعتبر مؤشرًا على الاستعداد للتفريط بالتاريخ مقابل المادة والمشاريع الحديثة، أما الإطار الثاني فهو التوثيق الذي لابد أن يركز على البحث العلمي والتنقيب والتحقيق بغية التعرف على المجهول. وهنا لابد من تعاون من قبل من يملكون الوثائق فلا نريد أن يصل الأمر بباحث إلى أن يرفع قضية ضد مسؤول كبير طلب منه تحقيق مخطوطة تاريخية فقال له هذه ملك شخصي، مما اضطره للجوء إلى المحكمة التي وقفت إلى جانب حق المعرفة التاريخية، أما المسار الثالث فهو التسويق والتدريس نحتاج إلى تسويق تاريخنا من خلال عمل كثير من المتاحف.. وعرضها للأجيال العمانية لتعرف قصة حضارتها، وإلى إعداد قصص تاريخية للأطفال تساعدهم على التعرف على تاريخهم بطريقة مشوقة جذابة.

المضي في نهج وطني لبعث التاريخ .. وحفره في الذاكرة العمانية الشابة..هو أجدى نفعاً من الانشغال بسجالات لا يمكن أن تمس ما لا يمكن أن يمس، إن الخشية ليس على ما هو مدون في كتب التاريخ، الخشية على الذاكرة التي لا تعي هذا التاريخ، لذا علينا أن نحصن ذاكرة الجيل العماني تاريخيًا، لأن من لا يعرف تاريخه لا يوجد ما يحفزه على الفخر به.

saifn@squ.edu.om

تعليق عبر الفيس بوك