زينب محمد الغريبية
نعيمة أحضرت عاملاً آسيويًا، ليكون مساعدًا لها في أعمال المنزل والحديقة، قضت ما يقارب الشهرين تعلمه كيفية التنظيف وآلياته ومهامه المنزلية حتى أتقنها، فتلك الفئة من العمال تأتي إلى بلادنا بدون أدنى مهارة ولا حتى بذرة فكرة ليتم تطويرها فيهم، فقط اصنع ما تستطيع من بناء فيهم علّهم ينجزون لك عُشر ما تريد فتشكر الله على ذلك، ليت الأمر يظل على هذا الحال، فقد رضينا، إلا أنّ الكارثة بعد أن دفعت نعيمة كل تكاليف استجلابه، وتعبت في تعليمه، بكل بساطة.. هرب...
نعم هرب العامل، ليلتحق بسرب الهاربين، وما أن يهرب، تضطر نعيمة لتكبد المتاعب دون نظر لحقها في الموضوع، فلابد من التبليغ عنه، والإعلان الرسمي في الجريدة عن هروبه، ولو تمكنت الشرطة من إلقاء القبض عليه من باب الصدفة، فسوف تقوم نعيمة أيضًا بتوفير قيمة تسفيره، لم يلحق بذلك العامل أيّ ضرر، ولم يجد عقابًا رادعاً لفعلته، تكفي العبرة لغيره، ولم يوجد إنصافا لنعيمة يعوضها عن الضرر النفسي والمادي الذي لحق بها، ما عذرنا أمامها بأن نقول لها هذه علاقات دبلوماسية بين الدول، فعلينا أن نتحمل ذلك في سبيل حفظ حقوق العمال المنتمين لدول صديقة ضمن بيانات العلاقات الدولية في ذلك الشأن، وماذا عن حق المواطنة نعيمة؟
ألم يخطر في بال المشرعين، أن المواطن أيضاً له حق في هذا الجانب، يوازي حق العامل إن لم يزد عليه، ألم يخطر ببالهم، أن يكفلوا حقوقًا للطرفين يوقعان عليها، ليكون كل منهما على بينة، ولكن ما يحدث هنا، هو أنّ العمال لو علموا بأنّ وراءهم قانون رادع، وعقوبة مؤلمة للزموا الأدب وعرفوا حدود أفعالهم وتحركاتهم، ولتكن تلك العلاقات الدبلوماسية مبنية على تعاقد منصف للجميع، فلا يعني أن أكون المصدر أن أجلب لك أيّ بضاعة فاسدة أو مجهولة المفعول، بل عليّ الالتزام بطيب ما أُصدِّر لك حتى يتم بيننا التعاون المشترك.
إلا أنّ هذا المألوف في سوقنا وهو عدم الالتزام بتقديم الجيّد للمستهلك، ولا يهتم مقدمو الخدمات بالجودة والتعامل الجيّد مع المستهلك واعتباره شيئًا مهماً مقابل اختياره الاستفادة من خدماتهم، بل يعتبرون أن المستهلك هو من يحتاج لهم، لا هم يحتاجون لهذا المستهلك لتسويق ما لديهم، وأن المصلحة مشتركة بينهما وهم يحتاجون لقوته الشرائية من أجل الاستمرار، وقد سارت هذه الصورة النمطية على كافة أنواع الخدمات المقدمة لنا، على حساب رضانا أو الجودة المقدمة لنا، أو الراحة التي نشعر بها بعد الاستهلاك، كل ذلك لا يهم، لا أعلم كيف رسخت هذه الثقافة في مجتمعنا وأصبحت تسيطر على كافة معاملاتنا!!.
عندما هرب العامل، انتهت بذلك الخدمة التي استفادت منها نعيمة، خسرت الكثير، وفي المقابل لم تجد أي مصلحة، أو خدمة مقدمة، أو تعويض حتى ولو كان نفسياً، أهكذا يمكن أن تنتهي هذه القضية؟ ويسدل عليها الستار؟ أهذا هو حق المواطن، مقابل ما يدفعه من مبالغ ليستفيد من خدمة معينة؟ لماذا لا تكون هناك حلول لهذه القضية في صالح الطرفين العامل والكفيل، ويتم الالتزام بها من قبلهما، أو أن يتحمل أيّ طرف نتيجة الإخلال بالمنصوص عليه؟.
ومن ذلك أن يوقع العامل على أن يدفع كافة مستحقاته للكفيل لو رغب في نقل كفالته لشخص آخر، مع غرامات تُقدر حسب ما تمّ تقديمه له من خبرات تمكنه من إيجاد فرص أفضل له في سوق العمل، وقد يقوم العامل بنفسه بدفعها أو الكفيل الثاني الذي يرغب بنقله على كفالته بعد الاتفاق بينه وبين العامل، وفي حالة هروب العامل والقبض عليه، لن يتم تسفيره إلا إذا دفع كافة تلك التكاليف آنفة الذكر للكفيل، ويدفع تذكرته بنفسه، ويتم سجنه كعقوبة، فلا يضر ذلك بحقوق العمال ولا العلاقات الدبلوماسية، فما يقوم به العامل من هروب وإقامة غير شرعية هو ما يؤدي إلى الإضرار بأمن الدول والاستقرار، وضياع حقوق القائمين على استجلابهم للاستفادة من خدماتهم، فعندما يشعر العامل بقانون صارم يمكن أن يضره حينها سوف يعرف حدود حركته وصلاحياته، وأن يلتزم بعمله وحقوق من يعمل معه مقابل الحقوق التي يحصل عليها.
فعند إصدارنا للقوانين، علينا أن نضع في الاعتبار مصلحة المواطن قبل كل شيء، ورضاه قبل تحديد العلاقات الأخرى التي قد تؤثر سلباً عليه، وبعدها نبني كافة القوانين على ذلك، لن نقول هنا الرضا المشترك غاية لن تدرك، فالقوانين العادلة في هذا الموضوع، والتشريع المنصف، بما يكفل مصلحة المواطن وحقه، إنما هي غاية مشتركة يتطلع إليها كافة المواطنين.
وما نعيمة إلا واحدة من الآلاف الذين عانوا وما زالوا يعانون من هذه القضية، فذاك العم ناصر، رجل كبير لم يعد قادرا على فلاحة أرضه، أبناؤه الأربعة في عراك مع الحياة لجلب لقمة العيش لهم ولعوائهلم الكبيرة، وقد استقدموا له العامل الأول ليكون مزارعًا يساعده، وبعد أن خصص له غرفة مستقلة مكتملة المستلزمات الأساسية، وقاسموه من أكلهم وشربهم وكأنّه أحد أبنائهم، وقد تعلم أساسيات العمل بالمزرعة، هرب بدون أية مقدمات، وتم الإعلان عنه والتبليغ وانتهى بذلك الموضوع، ماذا قدم له العم ناصر؟ وماذا علّمه؟ وكم من الوقت أخذ في تعليمه؟ وكم من الأشياء صرفت عليه وقُدِّمت له؟ كل ذلك لا يهم، ما يهم فقط أن بَلِّغْ عنه، وارض بما قسم لك ربك، الخطوة الثانية تم استجلاب عامل آخر، ومر بنفس الظروف، وانتهى بنفس النهاية، هرب الثاني، وانتهت المرحلة.
ما باليد حيلة، ونُفذت الخطوة الثالثة واستُجلِب العامل الثالث، وقدمت له نفس الحقوق، فالعم ناصر وزوجته كبيران في السن، لا يعرفان إلا أن يعملا بسجيتهما التي عاشا عليها وهي إكرام من يعيش بينهم، وينتمي إليهم، وللأسف كانت النهاية أيضا هي نفس النهاية فقد هرب العامل الثالث أيضاً، وكأنها شبكة تخصصت في السطو على من أتى جديدا هنا وهناك ويتم الاستيلاء عليهم وتهريبهم بإغرائهم بربح أكثر، ولو أنّ القانون قد وضع لمثل تلك الشبكات حد ما استفحلت بهذا الشكل.
بل إنّ القانون هنا قد منع العم ناصر من استجلاب الرابع، بتهمة هروب ثلاثة من العمال، فما سبب هروب العمالة منك؟ ما الوضع الذي يعملون به؟ بأيّ حق يطلقون عليه هذا الحكم؟ اذهبوا وادرسوا الحالة؟ ورأوا الوضع الذي يعيش به العم ناصر وزوجته الكبيرين في السن بمفردهما، والوضع المترف الذي يعيش فيه العامل مقارنة ببقية العمال؟ لماذا توجه التهمة هنا مباشرة للمواطن؟ فهو السبب في هروب العمالة؟ لماذا لا تتم دراسة الوضع دراسة علمية واقعية؟ وبعدها تمحص الأمور وتطلق الأحكام.
قصة العم ناصر ونعيمة ليستا من وحي الخيال، إنما حقيقتان عايشتهما، وعايشت غيرهما، من هروب خادمات منازل، وما زال المسلسل لم تنته حلقاته وأحداثه، فكل يوم نسمع الجديد من معاناة المواطنين من هذا الموضوع، ونسمع في المقابل إعلانات الشرطة عن إلقاء القبض على مئات الهاربين والموجودين بشكل غير قانوني، نهاية هذا المسلسل بيد مشرعي القرارات، فلا يمكن الرضا من قبل المواطنين بهذا الوضع، فنحن ننتظر مشهد النهاية من الجهات المختصة بما يرضينا ويحقق مصالحنا كمواطنين.
zainabalgharibi@yahoo.com