لغة الوجود

عهود الأشخرية

من المستحيل تخيله؛ أن يكون هذا العالم الممتد دون فن أو جمال كيفما كان شكله، حيث إننا نحرص دائمًا على أن تكون حياتنا على هذه الأرض سلسة أكثر لأن ثمة ما يجعلنا خفيفي الروح، قلوبنا محلّقة دائماً مثل سرب حمام أو فراشات ملونة في الحقل البعيد، الموسيقى تفعل ذلك كأنها لغةٌ لهذا الاتساع الوجودي؛ هذه اللغة التي ليس من الضروري أن نفهمها بقدر ما يجب أن نستمتع بها، ونعيش في تموجاتها المختلفة.

الموسيقى لغة الوجود وهي مرآة يتجلى فيها تاريخ الحضارات، إضافة إلى وظائفها البيولوجية والسيكولوجية والإنسانية بشكل عام، أما عن وجودها في الحضارات القديمة فهي موجودة منذ مئات السنين قبل الميلاد؛ ففي المجال الديني خصوصًا هناك الكهنة الفرس الذين كانوا يستخدمون الأناشيد والتراتيل الموسيقية أثناء تقديم الذبائح للآلهة، حيث إنه لا طقس يعترف به لتقديم الذبائح إلا بوجود الموسيقى، الموضوع هذا يتسع إلى حضارات أخرى وتقاليد كثيرة ومختلفة كالحضارة الفرعونية القديمة، والحضارة الرومانية وبالطبع هناك الحضارة الهندية واليوناينة التي كانت كلمة (موسيقى) مشتقة منها، إضافة إلى الكثير من الحضارات القديمة؛ ذلك أن الموسيقى كانت ترافقهم في طقوسهم المختلفة وفي معتقداتهم التي ظنُّوا أنها ستخلد أبدًا. أما عن تأثير الموسيقى إنسانيًا فهذه القضية لها وجهات عديدة لا يمكن حصرها في نص واحد، فلكلٍ نظرته الخاصة لها التي يمكن ألّا يؤمن بها شخص آخر، ولكل طريقته في التعامل مع الموسيقى. ومن هنا وجب التحدُّث عن علاقتنا نحن بالموسيقى، هذا لأنّها تملأ حياتنا بالخيال اللامنتهي، تحملنا رسائل سلام يجب أن تصل بكل صدقها وشفافيتها للبشرية، ـ إنها رسالة سلام دافئةـ. إضافة إلى ذلك فإنها ترتقي بالحس الوجداني من خلال كمية الصفاء التي تبعثها فينا، من خلال طاقتها الروحية العظيمة.

أظن أن ما يدفعني الآن للكتابة عن الموسيقى وجود (مارسيل خليفة) في الأيام الفائتة بيننا؛ بدايةً في ندوة "جدل" بمعرض مسقط الدولي للكتاب، وبعدها ليلتين سماويتين في دار الأوبرا السلطانية حيث خرجنا من هناك سكارى بموسيقاه، وتجلِّي (محمود درويش) في روحه. أظن أن علاقة (مارسيل خليفة) بالموسيقى كعلاقته بأبنائه أو ربما أعمق من ذلك. حيث قرأ لنا في ندوة "جدل" نصاً عن الموسيقى وعلاقته الروحية بها، كان قد بدأ ذلك بتكرار كلمة الموسيقى ثلاث مرات (الموسيقى، الموسيقى، الموسيقى)، بعدها حكى عن التأثير الذي تبعثه الموسيقى في العالم أو يجب أن تبعثه حيث قال: "لعلّ الموسيقى هي التي تحمينا من النزعة التشاؤمية التي تغور وتغلي في قلوبنا، تفاؤل مثالي يرفض الاستسلام.. تفاؤل بل حتى في حالات الكفر، إيمان بالتغلب عن الضعف والكبوات والمشاكل والمآزق والمآسي، لا بل الفواجع، لا بل الموت". لا يمكن لإنسان أن يتحدث بكل هذا التداخل مع الموسيقى إلا إذا كانت تسري في دمه كأي حاجة أخرى من احتياجات الجسد. بدليل أنه يختم هذه الورقة الموسيقية بعد كتلة من الجمال الذي يندرج تحت مسمى واحد بقوله: "الحياة كلها بالنسبة لي، ضرب من الموسيقى، ولا أستطيع العمل أو النوم أو الحلم أو الكتابة إلا بحس موسيقي، يصل أحيانًا إلى درجة الولع".

إن الموسيقى ليست حصرًا على أحد، حيث إنّه من حق أي إنسان أن يؤمن فيها بالطريقة التي يريد، ويقدسها كما يشاء، أو ينفيها من حياته أيضًا كما يشاء، ولا يجب أن تكون متخصصا في الموسيقى لكي تعيش ربكتها الحقيقية، أو ذلك الإحساس الذي يجعلك تحلّق بين النوتات الصغيرة، يقول العالم الفيزيائي (ألبرت أينشتاين): "لو لم أكن فيزيائيًا من المحتمل أن أصبح موسيقيًا، أحلام اليقظة لدي موسيقى وأنظر إلى حياتي بدلالة الموسيقى، أجمل أوقاتي تلك التي أقضيها بالعزف على الكمان"، وهذا من أوضح الأدلة على أنّه يمكن للموسيقى أن تشمل كل شخص في هذا الوجود مهما كان تخصصه أو مجاله، فهي متعلقة بداخل الإنسان ليس بمساره الخارجي، وفي عظمة الموسيقى يقول الفيلسوف الألماني نيتشه: "الموسيقى ألغت احتمال أن تكون الحياة غلطة"، فأي شيء أعظم من أن تكون الموسيقى والفن بكل صوره سبباً للبقاء على قيد الحياة، وليست أي حياة؛ إنما تلك التي تجعل من التفاصيل الصغيرة لحظات مُقدسة بالموسيقى. فشكرًا للفن على هذه الحياة.

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك