مستريحٌ ومستراحٌ منه

عيسى بن علي الرواحي

وكان مما ذكرته له أثناء جلوسي معه: إنّ والدك الذي توفي قبل عشر سنوات قد أجبرنا، وأجبر الناس في مجتمعه ومن عرفه على عدم نسيانه، كما أجبرهم على تجرّع مرارة فقده فترة طويلة من الزمن؛ لما تركه من أثر طيب في قلوبهم، ولما تمتع به من خصال حميدة كان البذل والإنفاق في سبيل الله في مقدمتها، ومن الأهميّة بمكان أن تقتفوا أثر والدكم في علمه وخلقه، وتعلق قلبه بالمسجد، وسيرته الطيبة بين الناس والمجتمع.
نعم إنّها حقيقة واقعة في أنّ بعض من رحلوا عنّا وإن توالت الأعوام وانقضت الأيام لا يمكن نسيانهم، أو نكران جميلهم ومعروفهم؛ إذ لهم في حياتهم بصمة واضحة من فضائل الأعمال وصالحاتها بقيت ولا تزال بعد حياتهم إلى ما شاء الله لها أن تكون، وكما قال الشاعر:


قد مات قوم وما ماتت فضائلهم

وعاش قوم وهم في الناس أموات

إنّ حقيقة الموت وحتميّة وقوعه في أجله المسمى لكل إنسان على هذه البسيطة أمر مفروغ منه ولا جدال فيه، قال تعالى: (كل نفسٍ ذائقَة الموت ثم إِلَينا ترجعون) [سورة العنكبوت : 57]، ولكنّه شتان بين أن يكون المتوفى مستريحًا وبين أن يكون مستراحا منه، وشتان بين من تبكي السماء والأرض على فقده إذ صار رحيله خسارة وحسرة وكمدًا ليس لبني البشر فحسب، وبين من ينطبق عليه قوله تعالى : (فَما بكت عليهِم السماء والأرض وما كَانوا مُنظرين) [سورة الدخان : 29]. وشتان بين من تكون وفاته بداية حياة هانئة سعيدة بروضة من رياض الجنة، وبين من تكون وفاته بداية حياة تعيسة شقيّة بحفرة من حفر النيران.
نعيش هذه الحياة ونكافح في معتركها، ولا تكاد تهدأ مسامعنا ولا أبصارنا من سماع أخبار الراحلين ومشاهدة جنائزهم، وهم يتجهون إلى الحياة الأبديّة الخالدة، وكل متوفٍ تكون حقيقته مستريحا أو مستراحا منه، وتلك الحقيقة التي ترجمها واقع دنياه تنعكس بلا ريب في أخراه، ولو أنّ الإنسان عمل وفق الغاية التي خلق من أجلها في هذه الحياة الدنيا، لكانت وفاته ورحيله دون أدنى شك استراحة وسعادة. ولا ريب أنّ كل إنسان يمني نفسه في أن يكون حال وفاته مستريحا لا مستراحًا منه، وهذا ما يطلب منه ويرجى له، ولكن ما نيل المطالب بالتمني، وإنما العمل والكفاح والصلاح والإصلاح.
يكون المرء حال وفاته مستريحا بعد أن يقضي حياته الدنيوية في طاعة الله وتحقيق الهدف الذي خلق من أجله (وَما خلقت الجِنَّ وَالإنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) [سورة الذاريات: 56] وتلك العبادة بمفهومها الشامل الواسع بما حوته من اعتقادات وأقوال وأفعال وسلوك حسن وخلق جميل، وهو بذلك يرجو من عبادته رحمة ربه؛ ليفوز بعطائه وسخائه.
يكون المرء مستريحا حال وفاته بعد طاعة طوعية توفرت فيها أسس الانقياد والالتزام والتذلل والخشوع والإخلاص، وخاف لأجلها مقام ربه، ونهى نفسه الأمارة عن أهوائها وملذاتها، وصبر وصابر لكبح جماح شهواتها.
يكون المرء مستريحا حال وفاته بعد عناء الدعوة في سبيل الله، وما تحمله في سبيل ذلك من جهد ومشقة وعناء ونصب وتعب وبلاء وكفاح، وما بذله من جهد ووقت ومال في خدمة عباد الله والسعي في مصالحهم.
يكون المرء مستريحا حال وفاته؛ لما تركه من أثر طيب وسيرة حسنة في محيط البلاد وقلوب العباد، فبتقواه وطاعته لله وحسن سيرته في الناس ودماثه خلقه وجميل تعامله معهم يحبه الله؛ فتحبه ملائكة السماء وعباد الأرض.
يكون المرء مستريحا حال وفاته عندما تتكشف له الحقيقة، وتبين له الطريقة، فيعلم عند سكرات موته أنّه من أهل الرحمة والمغفرة والرضوان، فتخرج روحه الطيبة من جسده الطاهر بكل يسر وسهولة، وحق لتلك النفس أن تستريح فقد قدمت إلى رب رحيم كريم راض غير غضبان.

وعندما يكون المرء مستريحًا حال وفاته؛ فليس حزن وأسى وبكاء الأحياء من حوله حزن المصير - وإن كانوا لا يجزمون بمصيره - وليس حزنهم وبكاؤهم اعتراضا على قضاء الله وقدره، فهم يوقنون بأنّه لا راد لقضاء الله ولا غالب لقدره، وأنّ كأس الموت كلنا سيتجرعه؛ وإنما حزنهم وأساهم وبكاء السماء والأرض على لوعة الفراق فراق الطيبين ورحيل الصالحين، فحزنهم على من تذكرهم بالله رؤيته وقد رحل، وتقوى عزائمهم بهمته وقد أفل، وحزنهم على من كان يُذكّرهم بسيرة المصطفى سلوكه، ومن كان يذكرهم بالآخرة عمله، ومن كان يزيدهم في العلم حجته ومنطقه، وحزنهم وأساهم على نضوب نبع من الخير والصلاح، وانقطاع فيض من الهمة والكفاح. ولا شك أنّ أمثال هؤلاء لا يمكن أن يُنسى أثرهم أو يُجحد فضلهم أو يُنكر جميلهم، فهم ماتوا ولكنهم ما ماتوا إذ بقيت ذكراهم الطيبة وسيرتهم الحسنة خالدة في قلوب الناس، ومضيئة مشعة يقتبسون من ضيائها وبياض صفحاتها ما يعينهم على مواجهة ظلمات الحياة ومدلهمات الأمور، كما أنّهم لم يموتوا ولم تنقطع أجورهم وحسناتهم رغم رقداتهم في قبورهم؛ لما خلفوه من سنن حسنة وعلوم نافعة وصدقات جارية ودعوات صادقة تتدفق عليهم ليلا ونهارا، وتزيدهم سعة في قبورهم وتثقيلا في موازينهم، فحق لهم بذلك أن يستريحوا.
وفي الجانب الآخر قد يكون المرء حال وفاته مستراحًا منه، وما أكثر المستراح منهم في زماننا هذا!
يكون المرء مستراحا منه حال وفاته بعد شقاء معاصيه لله، وبعده عنه وتمرده على أوامره، وأمراضه القلبية الكبيرة التي يهلك بها البلاد والعباد من كبر وتعال وغرور وحقد وحسد وبغضاء، وآفاته اللسانية الممقوتة من كذب وغيبة ونميمة وشتم وسباب.
يكون المرء مستراحًا منه حال وفاته عندما يرتكب كبائر الذنوب والآثام، ويظلم بها عباد الله في أرضه من زعزعة للأمن والاستقرار ونشر للفوضى وظلم وسرقة وأكل أموال الناس بغير حق، وأكل للربا، وتعد على الأملاك العامة، وقتل للنفس بغير حق، وشرب للخمر، وهتك للأعراض، وشهادة الزور وطمس الحقائق، وخيانة الأمانة، ونقض المواثيق والعهود وعقوق الوالدين ونشر للرذيلة.
يكون المرء حال وفاته مستراحًا منه عندما يحارب الله ورسوله والدعوة في سبيل الله بماله وجهده ووقته؛ فيعمد ما استطاع إلى الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، ومنع فضائل الخير ومنابع الفضيلة، وتشويه سمعة الصالحين، وعرقلة مشوار دعوتهم إلى الله.
يكون المرء مستراحا منه حال وفاته، وقد خرجت روحه من جسده بغصة تلو غصة، تاركًا صاحبها أثرًا سيئا وسيرة غير محمودة في قلوب الناس، وهو مقبل على شقاء وجحيم، ومن يحزن عليه فليس حزن الفراق، وإنّما حزن المصير- وإن كان لا يجزم بمصيره - وفي حقيقة الأمر أنّ رحيل ظالم أو موت محارب لله ورسوله ينبغي أن يعقبه الحمد لله، مصداقا لقوله تعالى: (فقُطِعَ دابِرُ القَوم الذِين ظَلَموا والحَمد لله ربّ العالمين) [سورة اﻷنعام 45].
إن المرء وهو يعيش عمره القصير له حرية الاختيار في تحديد مسيره ومصيره الأبدي؛ فإن أراد أن يكون حال وفاته مستريحا فله ذلك إذ يخرج من نصب الدنيا إلى رحمة الله، وإن أراد أن يكون مستراحا منه فله ذلك إذ يستريح من أذاه العباد والبلاد والشجر والدواب كما ورد ذلك عن الرسول - صلى الله عليه وسلم- وما خلق الله نفسا إلا ألهمها فجورها وتقواها، والقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة قد أوضحا لنا الطريق المستقيم الذي به الهداية والنجاة، وطريق الجحيم الذي به الغواية والهلاك، وإنّها لدعوة صادقة أذكر بها نفسي المذنبة أولا ومن يقرأ هذه الكلمات أن ننتبه قبل فوات الأوان، فالأعمار سريعة الانقضاء، والموت يأتي بغتة، سائلا الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل، ويجعلنا من المستريحين عند وفاتنا، ويكرمنا بفيض عطائه في فسيح جناته إنّه سميع مجيب.

issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك