عبيدلي العبيدلي
في مقابلة مع محطة CBS الإخبارية بتثها الأحد 8 مارس 2018 ضمن برنامج "واجه الأمة"، قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما "إنه سيتجنب عقد صفقة مع إيران لتعليق طموحاتها النووية ما لم توافق طهران على برنامج مراقبة مشدد مع شفافية غير مسبوقة." وأضاف أوباما خلال تلك المقابلة بأنه "إذا لم يكن هناك صفقة، فإننا سننأى بأنفسنا مشيرا إلى أنه إذا لم يكن لدينا تأكيدات بأنهم لا يتجهون إلى امتلاك سلاح نووي، وأن هناك محاولة لكسب الوقت، وفي هذه الحالة حتى لو قاموا بخدعة، فسيكون لدينا الوقت الكافي لاتخاذ إجراء، وإذا لم يكن لدينا هذا النوع من الاتفاق، فإننا لن نقدم عليه."
وإذا جاز لنا توصيف حديث أوباما، فأقرب اسم له هو "الرطانة السياسية"، والرطانة، كما جاءت في القواميس العربية "صوت الإنسان بغير لغته. فعندما يرطن الإنسان في كلامه، فهذا يعني أنه "تَكَلَّمَ لُغَةً غَيْرَ مَفْهومَةٍ ، فيها خَليطٌ مِنَ الأَعْجَمِيَّةِ والعامِّيَّةِ. ويقال رَطَنَ فلانٌ، أي تكلَّم بالأعجَمِيَّة". وطالما عرف عن أوباما البلاغة والفصاحة، حتى بلغ الأمر بالبعض وضعه في مصاف أبلغ الخطباء الأمريكيين من أمثال أبراهام لنكولن، وفرانكلين روزفلت.. ومن ثم فرطانته ليست عفوية، ولا لغوية، بل هي في جوهرها سياسية معدة بعناية، يراد منها تضليل متلقيها أكثر من أيّ شيء آخر.
وعليه، فعندما نصف كلمة أوباما بالرطانة، ندرك مسبقا أنها "رطانة" مقصودة، أراد لها صاحبها أن يكون فهمها عصيا على من يخاطبه، أو على أقل تقدير تجبره على استخلاص المعنى الذي يريحه. ونبني ذلك على كونه تحدث حديثا غير محدد المعاني، وهذا يضفي على ما ورد على لسان أوباما مسحة من الأهمية تستمد "رطانتها"، من مجموعة من العناصر والأسباب المتكاملة والمتداخلة، يمكن رصد الأبرز بينها في النقاط التالية:
1. أن عبارات أوباما لم تكن واضحة وغير صريحة ولا مباشرة، ومن هنا فهي بفضل ذلك كله، تحتمل أكثر من تأويل، ومن هنا تنبع "الرطانة السياسية" التي نتحدث عنها. فمن يريد أن يقرأها من زاوية عربية، يمكنه أن يجد فيها الكثير من "التطمينات المستقبلية"، لكنها تطمينات غير محددة المعالم، ومن ثم فهي غير ملزمة لصاحبها، لكنها تلمح إلى أنها، أي الولايات المتحدة، لا تريد أن تقبل بالشروط الإيرانية أمام أية تسوية محتملة للملف الإيراني. وبالقدر نفسه، يمكن أن تجد فيها طهران ما يشيع الارتياح والأمل في نفوس قادتها، لخلوها من أية نبرة تهديدية مباشرة وقاطعة، فليس هناك تحديد "للإجراء" الذي سوف يتخذه أوباما في حال تعثر المحادثات، جراء "الخديعة" الإيراني.
2. أنها تأتي في أعقاب كلمة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو استغرقت 39 دقيقة امام الكونغرس الأمريكي، التي خاطب فيها الرئيس الأمريكي باراك أوباما محذرا "من أن قبول اتفاق نووي مع ايران سيكون عدا تنازليا باتجاه كابوس نووي محتمل، من جانب دولة ستظل دائما عدوا لأمريكا". وأضاف في كلمة استغرقت 39 دقيقة، ووقف الحضور خلالها للتصفيق 26 مرة، " إن القيادة الإيرانية متشددة اكثر من أي وقت مضى، ولا يمكن الوثوق بها وإن الاتفاق الذي يجري التفاوض عليه مع القوى العالمية لن يحول دون امتلاك ايران قنبلة لكنه "يمهد طريقها نحو امتلاك قنبلة نووية". ومن ثم فمن غير المستبعد أن تكون كلمة أوباما موجهة نحو المؤسسة الصهيونية العالمية، من أجل عدم استفزازها في أي ترتيب مرتقب للعلاقات الأمريكية - الإيرانية في المستقبل القريب، لا يحظى بالمباركة الإسرائيلية التي يتوخاها الرئيس الأمريكي. وهذا يضفي على المقابلة الكثير من "الرطانة السياسية" المتعمدة التي يمكن أن يلمسها من يقرأ ما بين سطور تلك المقابلة، الهادفة إلى عدم خسارة الأصوات اليهودية التي لا يريد أوباما أن يكون سببا في أن يفقدها مرشح الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهي ليست بعيدة.
3. أنها تأتي في أعقاب الزيارة الخاطفة التي قام بها أوباما للرياض لتقديم التعازي برحيل ولي العهد السعودي عبد الله بن عبدالعزيز، وتهنئة خادم الحريمن الشريفين سلمان بن عبد العزيز بتسلمه مقاليد الحكم. وبالتالي فمن المهم أن لا تخرج مكونات المقابلة من السياق العام الهادف إلى عدم تعكير صفو العلاقات الأمريكية - السعودية، في هذه المرحلة التي تشهد فيها الأسواق النفطية الكثير من التقلبات ذات العلاقة بأسعار البترول.
لكن بعيدا عن كل تلك الاستخلاصات، لا بد من الإشارة هنا أن لجوء الرئيس الأمريكي، وهو البليغ الفصيح، إلى هذه الرطانة السياسية، تكشف إلى حد بعيد الكثير من معالم الوهن الذي يواصل دبيبه في جسد واشنطن، والذي لم يعد أي رئيس أمريكي، بغض النظر عن مهاراته السياسية أو اللغوية، قادرا على أن يخفيه، بعد أن بدأت مظاهره تفرض نفسها على السياسة الخارجية الأمريكية ليس أزاء طهران فحسب، وإنما تجاه عواصم بلدان العالم الأخرى، بما فيها تلك الحليفة لواشنطن.
ولعل إدراك طهران المبكر لمثل هذا الوهن، هو الذي يشجعها على المضي قدما في تطوير قدراتها النووية، المدنية منها والعسكرية، على حد سواء، مستعينة في ذلك بخبرات أعداء الولايات المتحدة ومنافسيها على الصعيد الدولي، من أمثال الصين وروسيا.
ولربما كل ذلك يدعو أصحاب القرار العرب إلى إعادة النظر في تحالفاتهم الدولية، بما فيها تلك التي تنظم العلاقة بينهم وبين واشنطن، إن لم يكن من أجل تغييرها بشكل جذري، ففي الحد الأدنى، من أجل تحسينها ولو بشكل طفيف، وعلى نحو تدريجي لصالح الطرف العربي. فمن غير المعقول أن نستمر في "الخانات الدونية"، بينما نرى غيرنا من الأمم، تغادر تلك الخانات، كي تحسن من مواقع دولها على خارطة العالم للعلاقات الدولية.