عبد الله بن علي العليان
دأبت جريدة الرؤية منذ انطلاقتها كجريدة عمانية يومية على الاحتفاء بكتابها وتقدير كتاباتهم، وتشجيع الإبداعات الجديدة للشباب، من خلال إتاحة الفرصة لهم في الكتابة، بكل أنواعها، ولذلك فإنّ الحفل الذي أقامته جريدة الرؤية في النادي الدبلوماسي بالعاصمة مسقط، برعاية سعادة الأستاذ/ أحمد الفلاحي، وهو من الكتاب المخضرمين، وإلى جانب كونه أديبا وشاعرا، وبحضور كتابها من داخل السلطنة وخارجها، وهذه من لمسات الوفاء والتقدير للكاتب، باعتبار أن هناك صلة وثيقة بين الكاتب والكتاب، فلولا الكاتب، لما ظهر الكتاب،الذي يعتبر أداة التعبير عن الأفكار ونقلها للآخرين، وأهم وسائل الاتصال في القرن العشرين، وما يزال مؤثرا بالرغم من جاذبية وسائل الاتصال عبر الفضاء المفتوح.
ولا شك أن هذه المبادر من قبل رئيس تحريرها الأستاذ حاتم الطائي تعتبر نموذجا يحتذى في تكريم الكتاب،وتقدير ما يقدمونه من عصارة فكرهم وإبداعهم، وهذا هو الذي يجعل التقدير حافزا ومعبرا عن الإحساس بأهمية الكاتب ودوره في المجتمع.
كان اللقاء الذي جمع الكتاب في حد ذاته خطوة مهمة، لأن الكثير من كتاب الرؤية، لا نعرفهم إلا من خلال كتاباتهم، وأفكارهم المطروحة في صفحات الرؤية، فكانت الاحتفالية مهمة على هذا الصعيد.
كما أن اللقاء الاحتفالي، كان فاعلا حواريًا أيضًا، من خلال طرح قضية مهمة راهنة، وهي (مسؤولية الكلمة) و(دور المثقف في مجابهة ثالوث تحديات الأمة)، وكان حوارا رائعا وجادا، في طرح هموم المثقف الكاتب،وكيفية أن تكون الكلمة نموذجاً للصدق،والعدل، والأمانة، والحق، والدفاع عن الحقوق والتسامح والاعتدال والوسطية، ونقد التطرف والغلو والتكفير، ومسؤولية المثقف هامة وضرورية، لأن دور المثقف بعيد التأثير مهمًا،حيث يستهدف شريحة واسعة من الناس، وله في الوقت نفسه رؤية نقدية تنتج الكثير من الأفكار التي تسهم في تلمس القضايا التي تهدف إلى الإصلاح والتقييم واستشراف المستقبل، لكن الإشكالية أن غالبية المثقفين أنفسهم، لم يعودوا كما نتوقع منهم، ذوي رؤية مستقلة، فقد انزوى بعضهم إلى حياته الخاصة، عندما ظهرت الأخطاء والسلبيات في الأمة، وأصبح البعض الآخر تابعًا ومحركًا، حسب الاتجاهات والميول، دون أن تكون قناعاته مطابقة لما يراه ويشاهده على الواقع.
لكن البعض يرى أن الصدمة الكبرى في حياة المثقف العربي والتي شكلّت له منعطفاً خطيراً في أيديولوجيته الفكرية، جاءت مع هزيمة 1967 ، لكنه استطاع أن يراجع قناعاته وينقذ نفسه، ويعيد النظر في بعض ما اعتنقه من أفكار وأوهام، وهذه المراجعة ربما أنقذته من نهايته كمثقف ملتزم بقضايا أمته ومجتمعه وعصره، وفاعل في الدفاع عن المبادئ الأساسية التي كانت راسخة في وجدانه. ودافعة للإبداع والتقدم والحرية، وظلت الانسدادات الفكرية تجاه المثقف تتراكم بفعل الاحتقان السياسي والتذبذب الفكري وغياب الحريات بمضامينها المتعددة في الديمقراطية وحقوق الإنسان، حتى جاءت الانهيارات الأيديولوجية وتبعاتها وأزمتها القائمة. وجاءت العديد من الكتابات الجادة في الغرب تتحدث عن نهايات السياسة ونهاية الأيديولوجيا. ونهاية المثقف ونهاية الديمقراطية. آخر مقولات هذه النهايات، نهاية التاريخ عند الليبرالية الغربية لفرانسيس فوكوياما. وتلقف بعض الكتاب الذين لا يتورعون عن توريد الأفكار والنظريات في الغرب عن طرح ما يقوله الغرب ويستعيره بلا مناقشة أو نقد ، ليعرف ما مضامين هذه الأطروحات ومطابقتها على واقع العربي وأزمته الحقيقية. وبالفعل طرحت مسألة "نهاية المثقف " على المثقف العربي، واستعيرت الأزمة الثقافية والأيديولوجية في الغرب بكل ظروفها، وإسقاطاتها على الثقافة العربية. وهذه بلا شك نظرة قاصرة ولا تعبر عن الواقع العربي وظروفه وقضاياه.
صحيح إنّ هناك الكثير من التداخل والترابط في إشكالية الثقافة وأزمة المثقف في الكون عموماً، وما أفرزته الإنسانية من مشكلات قد تتقاطر في الكثير من رؤاها ومضامينها، لكن هناك أيضاً الكثير من التقاطع والتنافر في مفاهيم المثقف العربي عنه في المثقف في الغرب، إلا إذا أصبح المثقف العربي نسخة "كربونية" من المثقف الغربي في أفكاره ورؤاه وإشكالياته، ومن ثمّ فإنّ تسمية المثقف العربي تصبح هنا غير ذات معنى. وتكون معالجة القضايا والإشكالات عند المثقف العربي مصطنعة، وقراءة مختلفة لتاريخ الأمة، ذلك فإن النخب المثقفة في الغرب صاغت قضاياها وأفكارها من داخل الغرب نفسه، ومن ثم فإنّ نخبنا العربية المثقفة عندما تستعير المشكلات والحلول من الغرب، فإنها بهذه النظرة تصبح كتلة منفصلة عن المجتمع والأمة، وتكون حلولها المطروحة مجرد استعارة وهمية لمشكلات غير قائمة، وتصبح أزمة المثقف العربي أو نهايته مقبولة الطرح وواضحة للمتابع الحصيف، وربما لا تحتاج إلى تنظير أو تحوير في هذا الصدد، ومع ذلك فإننا نرى أن هذه المسألة ـ أزمة المثقف أو نهايته ـ قضية نسبية بين أوساط المثقفين العرب، وقد لا تمثل الصدارة في إشكالية المثقف العربي الذي نقصده.
لنتفق أولاً أن المثقف في النهاية إنسان له ظروفه النفسية والاجتماعية، وله حاجاته المتعددة كأي إنسان في محيطه ، ولذلك ليس من العدل تحميله قضايا وإشكالات ليست من صنعه أو من بنات أفكاره، بمعنى أنّ الكثير من الإشكال الثقافي وتأزمه أو الجمود الإبداعي قد لا يصنعه المثقف وحده، لأنّ الثقافة عبارة عن تراكمات عديدة تصنعها الشعوب والمجتمعات الإنسانية، وفق بيئتها وسبل حياتها، لكن النخب بلا شك عليها الدور الأساسي في تفعيل هذه الثقافة وتحويلها إلى مؤسسة فاعلة في المجتمع. والمثقف العربي ينتمي إلى هذا الصنف من المثقفين الذي يسعون عبر نشاطهم النظري والعملي إلى إنجاز التطلعات الثقافية في المجتمع العربي، في إيجاد الإبداع الحقيقي في نظرته ودوره وممارسته.
وهذا لا يعني أنّ المثقف يستطيع الإجابة على كل الأسئلة، وحل كل المعضلات القائمة، لكن وظيفته هي الانطلاق والإبداع، والسعي إلى كشف القضايا والإشكاليات والبحث في مضامينها الجوهرية، وتحفيز النّاس على التفكير فيها بما يهدف إلى وضع هذه الإشكالات موضع النقاش والنقد الجدي، وليس الهروب والتقوقع والمعايشة في الأبراج العاجية. فالمثقف المبدع هو الذي يوجد إبداعه وتحفيزه لأقرانه على الدور الفاعل من خلال الأفق الثقافي المفتوح، والحفر المعرفي المستمر، والمراجعة الدائمة لهذا الإبداع للارتقاء به إلى مستويات رفيعة.
****
شكراً لجريدة الرؤية على هذا اللقاء الذي تمّ بين كتابها، وعلى الحوار الذي جاء على هامش هذا التكريم، والذي ألقى بحق بالحجر في المياه الراكدة.