دروس من انتفاضة مارس 1965

عبيدلي العبيدلي

لشهر مارس من كل عام ركن خاص في الذاكرة السياسية للمواطن البحريني. ففي هذا الشهر من ذلك العام، ودونما حاجة للتوقف عند تاريخ يوم انطلاقتها، إذ لا يزال ذلك اليوم مثار خلاف وجدل عند بعض القوى السياسية التي شاركت فيها، خرجت الجموع البحرينية معلنة احتجاجها على حملة التسريح الجماعي التي استهدفت عددًا كبيرًا نسبيًا من عمال شركة النفط (بابكو)، قدرها البعض بحوالي 800 عامل، في حين ذهب آخرون بالرقم إلى 1500 عامل. تطورت الأحداث بعدها كي يكتسب الحراك أبعادا سياسية متجاوزا بذلك العوامل العمالية التي كانت شرارة الانتفاضة الأولى.

هناك الكثير من الدروس التي يمكن أن تستقى من تلك الانتفاضة، رغم قصر عمرها. لكن قبل ذلك، ومن أجل رؤية الصورة من جوانبها المختلفة، ينبغي الإشارة إلى المتغيرات التي طرأت على المشهد السياسي البحريني خلال القرن الماضي، والتي - التغيرات-لا بد من أخذها في الاعتبار، في أية محاولة تسعى لاستخلاص العبر أو فهم الدروس التي صاحبت تلك الانتفاضة المجيدة، التي تجاوزت في بعض محطاتها، ومظاهرها ما عرفته البحرين في أحداث 1956 التي قادتها هيئة الاتحاد الوطني.

أول تلك التغيرات، هو انتقال الحكم في البحرين من حالة الحماية التي كانت تربطه بالإمبراطورية البريطانية، إلى خانة الاستقلال، بكل ما تعنيه كلمة "الاستقلال"، من معنى، وما تتطلبه من تشريعات، وقوانين، وأنظمة سياسية كانت تلك الأنظمة، أو مدنية. بتعبير أدق انتقلت البحرين خلال هذه الفترة إلى مصاف الدول التي ترتبط على المستوى الداخلي بدستور ينظم العلاقات بين السلطة القائمة وبين مواطنيها، وعلى الصعيد الخارجي يرسم معالم حضور البحرين في المحافل الدولية.

أما ثانيها فهو تعدد دوائر مؤسسات السلطات في البحرين، فلم تعد ثنائية محصورة في السلطتين القضائية والتنفيذية، بل توسعت كي تشمل التشريعية أيضًا. وبشأن هذه الأخيرة، فهي ليست مقتصرة على حجرة واحدة، بل هناك، إلى جانب البرلمان المنتخب، مجلس الشورى المعين، الذي يكون مع الأول المجلس الوطني، بوصف كونه السلطة التشريعية العليا للبلاد.

أما ثالثها، وهو الأكثر حداثة، فهو ذلك الحراك الذي عرفته المنطقة العربية منذ ما يزيد على أربعة أعوام، ولم تكن البحرين بمنأى عن تداعياته، بشكليها المباشر وغير المباشر. ولا يتوقف الأمر عند انطلاق ذلك الحراك، بل يتجاوز دوائره كي يصل إلى النتائج التي آل إليها، والدول التي ارتبطت به، إقليمية كانت تلك الدول أم عالمية.

أما رابعها، وهو الأشد حضورا، فهو ذلك الانقسام العمودي في المجتمع من منطلقات طائفية على نحو لم تعهده الحركة السياسية البحرينية، الأمر الذي أنهك قواها في معارك جانبية هامشية حرفت مسار الحراك السياسي عن مساراته الطبيعية، وأبعدته مسافات طويلة عن أهدافه الحقيقية التي كان من المفترض أن يركز جهوده من أجل نيلها.

تأسيسا على تلك المتغيرات، يمكن استخلاص مجموعة من العبر من تلك الانتفاضة، يمكن تلخيص الأهم منها في النقاط التالية:

1. إن المطالب الوطنية، مهما بلغت من الصغر، لا يمكن نيلها في ظل انقسام مجتمعي. فأحد أسباب انكسار انتفاضة مارس حينها، كان ذلك الخلاف الذي دب، بوعي أو بدون وعي، في صفوف القوى التي شاركت فيها، بل وحتى تلك التي قادتها. ذلك الخلاف أباح لبعض الأطراف أن تمارس دورًا ساهم في حرف المسار التاريخي للانتفاضة، وساعد على إجهاضها في مراحل مبكرة من حياتها. وعليه، فمن المفترض ممن يريد أن يتصدر أيّ حراك شعبي أن يعي هذا الدرس جيدًا، بمعنى أن أيّ انقسام في صفوف الجماهير، أو عزل لأيّ قطاع منها، من شأنه أن يكون أول معاول الهدم التي لا شك في مساهمتها في تراجع المد الجماهيري، ومن ثمّ تسهيل مهمة الإجهاز عليه، وإجهاض حركته.

2. التمسك بالمرونة، والقبول بالمساومة دون التفريط في مصالح الشعب العليا. فقد كان من أسباب تعثر الانتفاضة، دون التقليل من الإنجازات التي حققتها، بما ذلك إسهامها في التعجيل بنيل البحرين استقلالها، هو افتقادها للمرونة المطلوبة التي تمكنها من الدخول في مساومات سياسية تحقق المطالب الممكنة، دون التضحية بالمطالب الرئيسة. هذه المرونة الواعية، هي من الدروس الغنية التي يمكن أن نستخلصها من تلك الانتفاضة المجيدة. وعليه، فإنّ غياب المرونة يمكن أن ينقل العمل السياسي من مواقعه الناضجة المتمرسة، إلى خانات المراهقة ويعيده إلى مراحل الطفولة.

3. انتزاع المكاسب المتواضعة، واستخدامها كعامل تراكمي في تحقيق المكاسب الأكبر. هذا التدرج السياسي المحكم، يساعد على شحن الجماهير وتزويدها بجرعات تختلط فيها نشوة الإنجاز، بنزعة الأمل. مثل هذه الموازنة الدقيقة بين ما يبدو صغيرًا، لكنه قابل للتحقيق، وما هو كبير ويحتاج إلى مزيد من الجهد والتضحيات من أجل الانتزاع، بحاجة إلى نظرة مجهرية شمولية. تستفيد من العناصر الإيجابية القائمة، وتستقرئ العوامل المستقبلية المحفزة. لا شك أنّ بعض عناصر الخلل في انتفاضة 1965، كان مصدرها الافتقاد إلى المرحلية القادرة على التدرج في طرح الشعارات الملائمة التي تتناسب وطبيعة تلك المرحلة.

4. الرؤية السياسية الشمولية القادرة على قراءة المشهد السياسي الإقليمي، وانعكاسات موازين القوى على خارطته على الواقع البحريني. فمن الضرورة بمكان وعي الحيز الصغير الذي تحتله البحرين فوق خارطة إقليمها السياسي. وربما كان من أخطاء انتفاضة 1965 المجيدة غياب الربط المحكم بين ما هو إقليمي وما هو وطني.

تلك الدروس لا تقلل من الخانة التي تحتلها الانتفاضة في تاريخ البحرين المعاصر، بقدر ما تشكل محطة رئيسية لمن يريد أن يقرأ التاريخ بشكل نقدي معمق وليس ظاهري مسطح.

تعليق عبر الفيس بوك